تحية إلى رشدى سعيد .. القضية الغائبة فى التنوع البيولوجى والزراعة المصرية
ريم سعد
آخر تحديث:
الخميس 27 مايو 2010 - 9:29 ص
بتوقيت القاهرة
شرفت بدعوة مركز البحوث العربية والأفريقية للاشتراك فى ندوة «نهر النيل وقضايا الزراعة فى مصر»، والتى عقدت بمقر نقابة الصحفيين فى الرابع من مايو، وبمقر المركز فى الخامس من مايو 2010 بمناسبة الاحتفال بالعيد التسعين لميلاد الدكتور رشدى سعيد، العالم المصرى الفذ الذى لم ينفصل عطاؤه العلمى يوما عن التزامه الوطنى، والذى ــ كغيره من الخبراء المخلصين فى جميع المجالات ــ كثيرا ما اصطدمت آراؤه الوجيهة علميا بمصالح وأهواء الكبراء سياسيا.
فى عيد ميلاد رشدى سعيد اخترت أن أتحدث فى قضية التنوع البيولوجى الزراعى وأن أعرض لنتائج دراسة قمت بها مع زميلى حبيب عايب عالم الجغرافيا التونسى فى إطار عملنا سويا بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
التنوع البيولوجى هو باختصار جميع أشكال الحياة على الأرض والتى تتكون من ملايين الكائنات الحيوانية والنباتية والتى تتعايش وتتفاعل فى توازن دقيق، وتزداد الآن بشكل متسارع التهديدات التى يواجهها التنوع البيولوجى مع تعرض كائنات عديدة لخطر الانقراض مما يخل بهذا التوازن، ولهذا الأمر تبعات جسيمة على كوكب الأرض وشكل الحياة فيه كما نعرفها.
القضية خطيرة، وإن كانت غائبة تماما عن ساحة النقاش العام أو حتى المتخصص. ومن الملفت أن الأمم المتحدة أعلنت عام 2010، العام العالمى للتنوع البيولوجى بهدف لفت الانتباه إلى هذه القضية والعمل على التعريف بأهميتها ومحاولة التعامل مع التهديدات التى تواجهها ونواجهها معها. مع ذلك لا أعتقد أننا فى مصر قمنا بالجهد الكافى لتحقيق هذا الغرض اللهم باستثناء بعض الندوات التى لا تنال تغطية إعلامية كافية أو بعض المشروعات البحثية التى يتم تداولها فى نطاق ضيق.
يندرج هذا الموضوع تحت لافتة القضايا البيئية. ولعلنا نذكر أن قضية البيئة فى بداية ظهورها على ساحة النقاش العام كثيرا ما كانت تواجه باستهجان وأحيانا مقاومة من قبل فئات كثيرة من المجتمع، بل ومن قبل المشتغلين بالسياسة والمهتمين بالشأن العام، فقد كان ينظر إلى الاهتمام بالبيئة على أنه نوع من الترف لا يتناسب إلا مع من هم على درجة عالية من الرفاهية وخلو البال، ومضى وقت طويل قبل أن يدرك الجميع أن البيئة قضية تنموية حاسمة وأنها قضية سياسية فى المقام الأول.
ينطبق الأمر نفسه الآن على قضية التنوع البيولوجى التى ما أن نشرع فى ذكرها حتى تواجهنا ردود فعل هى فى أغلبها تنويعات على «إحنا فى إيه ولا فى إيه؟» العبارة بالفعل غير مألوفة، ولا توحى على الإطلاق بأن لها أى علاقة بالهم الأساس للشعب المصرى، «لقمة العيش»، مع أن الأهمية الحقيقية لهذا الموضوع تكمن فى أنه يقع فى القلب تماما من موضوع «الأمن الغذائى» أو بالأحرى «السيادة الغذائية» وهو المفهوم الذى ظهر مؤخرا والذى نفضله على سابقه لأنه يركز ليس فقط على قضية الاكتفاء الذاتى من حيث الكم وإنما يشدد على نوعية الغذاء وأيضا على حقوق المنتجين الزراعيين واستقلاليتهم.
ما هو إذن ذلك الخطر الشديد الذى يواجه التنوع البيولوجى الزراعى فى مصر؟ وما تبعاته؟ الخطر باختصار هو الاختفاء المتسارع لأصناف البذور المحلية لصالح البذور المهجنة التى تنتجها وتسوقها شركات البذور العالمية. ويقبل الفلاحون على البذور المهجنة بسبب إنتاجيتها العالية. إلا أن الانتشار الشديد لهذا النوع من البذور على حساب الأصناف المحلية هو أمر فى غاية الخطورة.
أولا لأنه يؤدى إلى الانقراض السريع للأصناف المحلية، ويسبب تقلصا فى التنوع البيولوجى ويستتبع ذلك أخطار غير معلوم مداها، وثانيا لأن البذور المهجنة لا يصلح معها أن يقوم الفلاح باستخراج «التقاوى» للمحصول القادم، مما يعنى أن الفلاح يكون دائما وفى كل الأحوال مضطرا إلى شراء البذور، ويكون اعتماده على السوق كاملا، وبالتالى يفقد جزءا مهما من استقلاليته. وهذا الأمر بالتحديد هو ما تسعى إليه شركات البذور العملاقة التى أصبحت متحكما أساسيا فى إنتاج الغذاء فى أجزاء كثيرة من العالم. ثالثا فإن فقدان الأصناف المصرية البلدية بخصائصها المميزة وطعمها الجميل يؤثر سلبا على نوعية الغذاء وهو أمر مؤسف للغاية.
الملفت فى الأمر أن فقراء الفلاحين والمرأة المزارعة يقومون بأهم دور على الإطلاق فى حماية الأصناف البلدية من الاندثار الكامل. فالمزارع الصغير يفضل أن يحتفظ بأقصى درجات التحكم فى عملية الإنتاج ولا يحب أن يضع نفسه تحت رحمة السوق بتقلباتها.
لهذا السبب ولتحقيق قدر ولو ضئيل من التوفير فى نفقات الإنتاج لا يزال الكثيرون من هذه الفئة يفضلون زراعة الأصناف البلدية ويقومون بإكثار البذور واستخراج التقاوى بأنفسهم. أما المرأة المزارعة فلها الدور الأكبر فى هذه العملية حيث إنها حسب التقسيم التقليدى للعمل الزراعى هى التى تقوم بعمليات تخزين البذور وانتخاب الصالح منها للإكثار، وهى عملية تتطلب معرفة متخصصة تمتلكها المرأة وحدها دون الرجل. إلى جانب ذلك ولأن المرأة هى المسئولة عن إطعام الأسرة فهى تهتم ليس فقط بالكم وإنما بالكيف. لذلك فكثيرا ما تقوم المرأة بحجز قطعة صغيرة من الحقل لزراعته بأنواع المحاصيل المختلفة التى تخصص فقط للاستهلاك المنزلى وهى عادة ما تزرعها بالأصناف البلدية لجودة مذاقها.
ما العمل إذن والحلقة الأضعف فى المجتمع هى الأكثر قدرة على حماية التنوع البيولوجى؟ لا يمكن بأى حال من الأحوال أن ندعو إلى الإبقاء على الفقر والتهميش كسبيل لتقليل خطر الاندثار الذى يهدد الأصناف المحلية. على العكس، فإننا ندعو إلى الإعلاء من قيمة هذه الأصناف وتسويقها على أنها منتجات متميزة ودعم المزارعين الذين يقومون بزراعتها. وفوق هذا وذاك لابد من إعادة الاعتبار للزراعة التقليدية والعمل على رفع الوعى بين صانعى القرار وواضعى السياسات الزراعية لكى يقتنعوا أن المزارع الصغير نعمة وليس نقمة.