تركيا تعود إلى زعامة العالم العربى بواجهة إسلامية يقبلها الغرب
فاروق جويدة
آخر تحديث:
الأحد 27 يونيو 2010 - 1:52 م
بتوقيت القاهرة
قفزت تركيا فجأة وبلا مقدمات فى قلب أحداث العالم العربى.. كانت هناك شواهد كثيرة توحى بهذا الاختراق المفاجئ ولكن السرعة فى الأحداث جعلت من الموقف التركى مفاجأة غير محسوبة بكل المقاييس على المستوى الإقليمى والعالمى..
كانت شواهد هذا الموقف قد بدأت منذ سنوات عندما رفض البرلمان التركى أن تنطلق القوات الأمريكية لغزو العراق من الأراضى التركية وخضعت أمريكا للقرار التركى.. وبعد ذلك كانت المفاجأة الثانية حين أطاح أردوغان رئيس وزراء تركيا بشيمون بيريز فى مؤتمر دافوس أمام العالم كله..
ثم كانت المفاجأة الأخيرة وهو ما حدث بعد العدوان الإسرائيلى على قافلة الحرية التى اقتحمها الجيش الإسرائيلى وقتل عددا من المواطنين الأتراك وكان ذلك سببا فى أكبر أزمة سياسية بين أصدقاء الأمس تركيا وإسرائيل.
الإسلاميون يصلون لحكم تركيا
إن أكثر ما يلفت النظر فى الفترة الأخيرة هو هذا الوجود التركى المكثف فى الساحة العربية. كانت هناك علاقات تتسم بالدفء بين تركيا والعرب فى السنوات الأخيرة ومنذ تولى حزب التنمية والعدالة الحكم فى تركيا زادت العلاقات دفئـا خاصة مع تطور العلاقات الاقتصادية والتعاون الفنى حيث وصلت إلى آفاق غير مسبوقة.
كان مجىء الإسلاميين إلى السلطة فى تركيا تحولا خطيرا فى مسيرة السياسة الخارجية لتركيا.. كان هناك شىء من الاستقبال الفاتر فى الغرب لوصول الإسلاميين إلى حكم تركيا بعد سنوات طويلة من سيطرة العلمانيين والعسكر على مسئولية الحكم.. وكانت هناك حالة تشبة الخصام بعد محاولات كثيرة فاشلة لدخول تركيا الاتحاد الأوروبى والسوق الأوروبية المشتركة رغم أنها تتحمل أعباء حلف الأطلنطى ويحسبها العالم على المنظومة الأوروبية بصورة عامة.. إلا أن أوروبا لم تكن فى يوم من الأيام على قناعة كاملة بأن تركيا دولة أوروبية جنسا وتكوينا ودورا وعقيدة.. إنها بالفعل تقع فى القارة الأوروبية ولكنها انتماء وتاريخا تبدو فى نظر الغرب بعيدة تماما عن هذا النسيج.
لقد حاول مصطفى أتاتورك أن ينزع تركيا من تاريخها القديم كدولة للخلافة الإسلامية ويلقى بها فى تجربة معاصرة اقتلعت منها الكثير من الجذور والهوية إلا أن الغرب لم يستطع يوما أن ينسى أحداث الأمس ومغامرات الجيش العثمانى وهو على أبواب فيينا أو احتلال اليونان وبعض دول أوربا.. لم تنس دول أوروبا طموحات الدولة العثمانية ومحمد الفاتح وهو يهز أركان العالم الغربى كله.
كانت عودة التيار الإسلامى السياسى إلى تركيا بقوة من المفاجآت التى حركت أحداثـا كثيرة فى أوروبا.. لقد سبق ذلك أحداث دامية تعرضت لها الجاليات المسلمة فى أوروبا كما حدث فى البلقان خاصة أحداث البوسنة الدامية.. وكانت هناك أيضا مذابح الشيشان فى الاتحاد السوفييتى ولاشك أن هناك جذورا تاريخية تربط هذه الجاليات بالدولة التركية خاصة أن تداخل الأجناس بين سكان هذه الأقليات والأتراك ترك آثارا عميقة على المستوى الدينى والتاريخى والحضارى.
ذكريات العرب مع تركيا
على الجانب الآخر فإن للعالم العربى ذكريات قديمة امتدت مئات السنين مع الغزو العثمانى الذى احتل الدول العربية أربعة قرون كاملة.. كان النموذج الصارخ للاحتلال العثمانى فى أوروبا اليونان.. وكان النموذج الصارخ للاحتلال العثمانى فى العالم العربى مصر والشام.. هذا التاريخ ما زال حتى الآن يترك ظلالا كثيفة على العلاقات العربية التركية.
هناك جذور تاريخية بين العرب والأتراك وتداخل عرقى امتد سنوات طويلة فما أكثر العائلات العربية التى جمعت جذورا تركية عربية فى وقت واحد ومن أكثر الدول التى تركت تركيا فيها آثارا فى التركيبة الاجتماعية مصر والشام.
فى مناطق كثيرة فى العالم العربى بقيت الجذور التركية واضحة فى ملامحها وثقافتها بل إن هناك عائلات تركية الأصل ما زالت امتداداتها فى العالم العربى.. وبجانب التداخل العرقى هناك الثقافة التركية خاصة فى الفنون والكثير من العادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية فى مناسبات كثيرة.. بل إن فن الموسيقى العربية انطلق فى الأساس بمقاماته وآلاته من الموسيقى التركية.. وفى العالم العربى عدد كبير من المبدعين الكبار من أصول تركية وفارسية وأيضا من الأكراد.
رغم كل التحفظات التى بقيت فى العقل العربى تجاه الأتراك والكثير من الآثار التى تركها الغزو العثمانى للعالم العربى إلا أن هناك بعض الإيجابيات التى حفظها الضمير العربى تستند فى الأساس إلى مقومات دينية فى أغلبها، خاصة أن تركيا جمعت الكثير من تراث الأمة الإسلامية عندما كانت تمثل الخلافة الإسلامية على امتداد قرون طويلة.
سلبيات تركها العثمانيون في عالمنا العربي
بقيت السلبيات التى تركها الاحتلال العثمانى شبحا يطارد العلاقات العربية التركية من وقت لآخر خاصة أن هناك أطرافا كثيرة ساعدت على ذلك ومنها الاستعمار الغربى.. كان خروج الأتراك من العالم العربى على يد القوى الأوروبية الصاعدة فى بداية القرن الماضى خاصة إنجلترا وفرنسا نهاية متوقعة لما كان بين العرب والأتراك.. خرج الأتراك فى ظل مؤامرة لتقسيم العالم العربى إلى دويلات صغيرة شاركت فيها تركيا.. ثم كانت مؤامرة إقامة الدولة الصهيونية وقد ساعدت الخلافة العثمانية على ذلك.. ثم كانت الحرب العالمية الأولى وما تركته من آثار على دور تركيا بصفة عامة فى ظل القوى السياسية والعسكرية الصاعدة والتى لم تكن تركيا طرفا فيها أو واحدة منها.
هذا التراث الاستعمارى القديم للدولة العثمانية بقى ساترا بينها وبين الدول العربية.. ومن حين لآخر كانت تظهر بعض بوادر الاتفاق أو الاختلاف بين العراق وسوريا ومشاكل المياه فى دجلة والفرات.
لاشك أن وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامى التوجهات أعادت إلى تركيا وجها قديما كان قد ضاع.. وهنا بدأت الجسور تمتد مرة أخرى بين العرب والأتراك ساعد على ذلك الثروة النفطية التى خرجت فى الأراضى العربية فى دول الخليج.. وساعد أيضا على ذلك ظهور إيران على الساحة الإقليمية كقوة صاعدة فى ظل الثورة الخمينية.. وكان ظهور تركيا فى نظر البعض عاملا إيجابيا أمام إيران الشيعية على أساس أن تركيا بقيت من حصون السنة مثلها مثل مصر والسعودية فى المشرق العربى.
11 سبتمبر تعيد تجربة تركيا للصدارة
بعد أحداث 11سبتمبر زادت أهمية التجربة الإسلامية فى تركيا على أساس أنها الوجه المتسامح لإسلام مستنير وعصرى أمام تيارات إسلامية أخرى عنيفة ومتطرفة وتميل إلى التشدد.. فى هذا الوقت كان ظهور التجربة الإسلامية التركية نموذجا مقبولا لدى الغرب.. وقد ساعد على ذلك عدة عوامل أهمها.. أن تركيا ترتبط بعلاقات طيبة وعميقة مع الغرب كما أن العلمانية التركية تمثل نموذجا حضاريا لا يختلف عليه أحد.. وبجانب هذا فإن العلاقات بين تركيا والغرب كانت تقوم على مجموعة من الأساسيات منها أن تركيا عضو أساسى فى الأحلاف العسكرية الغربية خاصة حلف الأطلنطى..
وأن هناك علاقات اقتصادية قوية بين أوروبا والأتراك، وقبل هذا كله فإن تركيا من الدول الإسلامية التى حافظت على علاقات قوية مع إسرائيل منذ نشأتها.. بل إن الدولة العثمانية كانت صاحبة دور فى إقامة الدولة العبرية فى منتصف القرن الماضى.. ومن هذا المنطلق فإن تركيا الدولة القوية كانت من الأوراق الرئيسية فى فترة الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتى.. وقبل اقتلاع شاه إيران كانت تركيا وإيران أهم قلاع المواجهة فى هذه المنطقة من العالم.
زاد حجم الدور التركى بعد أحداث 11سبتمبر وهنا ظهر عنصر آخر هو المواجهة مع الغرب وإيران.. كان الغرب يرى أن تركيا هى الدولة القادرة على مواجهة المد الإيرانى ساعد على ذلك الحساسيات التاريخية بين الفرس والأتراك وبين السنة والشيعة وبين الإمبراطورية الفارسية القديمة والدولة العثمانية الغاربة..
التجربة التركية ولعبة التوازنات
فى ظل تيار إسلامى سياسى صاعد فى تركيا وفى ظل تأييد غربى لهذا التيار على أساس أنه يسعى لدولة عصرية ويؤمن بالديمقراطية رغم سطوة العسكر إلا أن الغرب ساعد تركيا لكى تكون صاحبة دور أكثر تأثيرا خاصة أمام قوتين متجاورتين هما إيران والعراق.. لقد ساعدت إسرائيل على دعم الموقف التركى لمواجهة صدام حسين فى العراق والإمام الخمينى فى طهران.. وهنا كانت المؤامرة الكبرى التى دعمتها بقوة الإدارة الأمريكية وهى الحرب بين العراق وإيران.. لقد دارت هذه الحرب على امتداد ثمانى سنوات شهدت ملايين القتلى من البلدين وبلايين الدولارات ودمرت البنية الأساسية فى العراق وإيران وكان على الغرب أن يعيد بناء ما خربته الحرب وأن يعيد إنشاء القوة العسكرية التى دمرتها المعارك.
كانت أمريكا تتصور أن الحرب بين إيران والعراق سوف تقضى على الاثنين معا وكانت إسرائيل تدعم هذا التوجه بقوة ولكن ذلك لم يحدث فلم تستطع إيران القضاء على القوة العسكرية العراقية كما أن العراق لم يستطع الاجهاز على الثورة الإيرانية.
بقيت تركيا بعيدة عن حروب الجيران وكانت تنتظر فرصة القضاء على الاثنين معا ولكن هذا لم يحدث.. كانت إسرائيل شريكا أساسيا فى هذه المؤامرة وعندما اكتشفت أن النتائج التى أرادتها لم تتحقق بدأت فكرة احتلال العراق والقضاء عليه نهائيا على أساس أنه القوة الوحيدة التى بقيت بعد كامب ديفيد تتحدث عن الحرب والمقاومة.
يبدو أن الهدف الإسرائيلى اتفق فى ذلك الوقت مع أهداف المؤسسة العسكرية التركية فى ضرورة إجهاض العراق.. وفى هذا التوقيت بالذات صعد التيار الإسلامى فى تركيا ليصل إلى الحكم وخابت آمال إسرائيل وآمال السلطة العسكرية فى تركيا حيث عادت تركيا إلى الساحة السياسية بفكر جديد.
الإسلاميون يطيحون بقوى العلمانية
هنا حدث الخلاف فى البداية على المستوى الداخلى بين الإسلاميين الأتراك والمؤسسة العسكرية وتيار العلمانية.. وفى ظل انتخابات حرة استطاع حزب التنمية والعدالة أن يطيح بكل التيارات السياسية المعارضة من العلمانيين والعسكريين معا وأن يعيد لتركيا وجهها الإسلامى القديم مرة أخرى.
كان من الطبيعى مع عودة التوجه الإسلامى للدولة التركية أن تتجه إلى العالم العربى حيث الموارد الاقتصادية الضخمة وأن تتجه إلى العالم الإسلامى حيث الزعامة المفقودة.. هذا الدور وجد استجابة من الغرب خاصة مع تراجع أدوار دول المنطقة العربية وقد شجعت أمريكا هذا الاتجاه على أساس أن العلاقات بينها وبين تركيا تحمل رصيدا قديما كما أن العلاقات بين تركيا وإسرائيل كانت تشجع على هذا الدعم..
هنا حدثت مفاجآت كثيرة..كان اختفاء العراق من الساحة فى نظر أمريكا وإسرائيل نصرا كبيرا ولكن بعد أن برزت إيران على الساحة بهذه القوة اكتشفت إسرائيل وأمريكا أن غياب العراق أفسد كل قواعد اللعبة..
لاشك أن اختفاء الدور العراقى أعطى إيران فرصة ذهبية لتتصدر الساحة الإقليمية وجاءت معركة المشروع النووى الإيرانى لكى تغير كل الحسابات بين الغرب وإيران.هنا ظهرت تركيا كطرف مقبول من الغرب ومن إسرائيل لكى يلعب دورا ولكن تركيا لم تكتف بهذا الدور وأصبحت تطمع فى دور أكبر..
بدأت مفاوضات بين تركيا وإيران ولاشك أن هذه المفاوضات أزعجت إسرائيل وأمريكا رغم أنها بدت وكأنها تأييد للموقف الأمريكى.. وهنا حدث اتفاق تبادل اليورانيوم بين إيران وتركيا والبرازيل ولكن أمريكا لم تقتنع بهذا الاتفاق.. هنا كانت تركيا تحاول أن تأخذ مكانا أكبر ولم يكن غريبا أن تصبح طرفا فاعلا فى قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلى.. وكانت هذه هى المرة الأولى التى تطرح تركيا نفسها فى واحدة من أكبر الأزمات التى تعيشها المنطقة العربية بل ويعيشها العالم وهى قضية فلسطين..
يبدو أن رئيس وزراء تركيا الطيب اردوغان وجدها فرصة ذهبية لكى يضع تركيا على رأس دول المنطقة العربية وان يصبح حديث العالم العربى، وبذلك يحقق أكثر من هدف.
العرب يبحثون عن زعيم
إن العالم العربى يبحث الآن عن زعامة أمام التوسع الصهيونى الذى تدعمه أمريكا.. وهذا مدخل مناسب لكى يكون لتركيا دور أكبر عند توزيع الغنائم بين إيران وإسرائيل وبالطبع أمريكا على أساس أنها لا يمكن أن تكون زعيمة للعالم الإسلامى وبالتبعية العالم العربى وأن تعيد تاريخ الخلافة للمسلمين.
لقد خرجت الدول العربية من السباق وبقى فى الساحة ثلاثة أطراف هى إيران وإسرائيل وتركيا ووجدت أنها تستطيع الآن أن تحصل على جزء كبير من الغنيمة.
إن إيران ترتبط بعلاقات قوية مع سوريا وحزب الله.. وهو رباط تاريخى فيه قاعدة دينية وهو المذهب الشيعى.
حكام تركيا نبتوا من شجرة الشيخ حسن البنا
رغم العلاقات القوية بين حماس وإيران إلا أن حماس هى الأقرب إلى فكر حزب العدالة والتنمية لأنه الاتجاه الأقرب إلى الإخوان المسلمين لأن أربكان واحمد ياسين رغم الاختلاف بينهما فى المكان والزمان إلا أنها من شجرة الشيخ حسن البنا.
فى ظل رفض عربى غريب لحماس جاء الموقف التركى ليغير حسابات كثيرة ويلقى بتركيا مرة أخرى فى قلب العالم العربى.. وبعد أن كان البعض يرى أن إيران هى العدو القادم كان الاقتحام التركى مؤثرا وعنيفـا بحيث أنه أفقد القرار السياسى العربى الكثير من توازنه..
طوال الفترة الماضية كانت تحذيرات الساسة العرب لشعوبها من الخطر الشيعى القادم إلى دول الخليج ولينان وسوريا وغزة مع إيران وأن هناك دولة شيعية ستقام على حدود مصر فى غزة ولكن الحسابات فجأة تغيرت ووجد العالم العربى نفسه أمام دولة سنية لها تاريخ طويل مع العالم الإسلامى السنى تتصدر الساحة.
آخر ما تناقلته الأخبار أن أردوغان سوف يزور غزة.. وهذه مفاجأة من الوزن الثقيل إذا حدثت فلم يفكر مسئول عربى فى أن يتخذ هذه الخطوة.. كما أن هذا يمثل تحديا صارخا وعنيفـا لإسرائيل ودول السلام.. وقبل هذا كله فإن تركيا ليست الدولة الصغيرة التى يمكن تجاهل مواقفها..
ليست إسرائيل وحدها الآن التى تواجه العاصفة التركية القادمة ولكن الحكومات العربية فى موقف أسوأ أمام الغزو التركى القادم على أجنحة شعوب عربية محبطة جعلت من أردوغان زعيما للعرب والمسلمين خلال أيام معدودة.