من يعطل دور الإسلام فى آسيا الوسطى؟
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 27 يونيو 2010 - 10:04 ص
بتوقيت القاهرة
عندما احتلت روسيا القيصرية آسيا الوسطى لم تكن شعوب المنطقة تعرف الحدود السياسية. ولم تكن تلك الشعوب فى الأساس موزعة إلى دول كان يجمعها عاملان أساسيان، العامل الأول هو العامل الدينى، ذلك أن كل تلك الشعوب تؤمن بالإسلام وتتمسك بأهدابه. أما العامل الثانى فهو العامل البدوى، فقد كانت فى معظمها شعوبا تعيش حياة بداوة بسيطة وتعتمد على الزراعة والرعى والصناعات الصغيرة.
وفى أواخر القرن التاسع عشر كرس الروس استعمارهم للمنطقة من خلال ترسيم حدود سياسية لها.
غير أن تلك الحدود بقيت وهمية وغير ثابتة، ذلك لأن مفهوم الحدود كان مخالفا لطبيعة الحياة المشتركة وبالتالى لم يكن محترما، وبالتالى لم يكن مقيدا لحركة تنقل الأشخاص وتبادل المنتوجات.
بعد الثورة الشيوعية فى عام 1917، قررت روسيا السوفيتية تحويل المنطقة إلى دول، وتولى الجنرال جوزيف ستالين الإشراف بنفسه على عملية رسم حدود هذه «الدول الجديدة» من دون أى مراعاة للتنويع القبلى أو الإثنى، ولم يراعِ ستالين حتى المعالم الجغرافية من جبال وأودية وأنهار لرسم هذه الحدود، ويشهد على ذلك الواقع فى وادى فرغانة الغنى بالمياه وبالأراضى الزراعية، فقد تقاسمته بقرار عشوائى من ستالين، ثلاث دول تمّ رسم حدود لها هى أوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان.
أعيد النظر فى هذه الحدود مرات عديدة، خصوصا فى عام 1936، وعندما انهارت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتى، استحدثت لأول مرة ربما فى عام 1991 الإجراءات البوليسية التى تفرض على الحدود بين الدول.. وكان ذلك وحده كافيا لتفجير الخلافات بينها. ففى داخل دولة واحدة منها مثلا، قرغيزستان توجد سبعة جيوب كبيرة تابعة سياديا لدول أخرى، خمسة جيوب لأوزبكستان واثنتان لطاجكستان.
شكل هذا التداخل قنابل موقوتة على النحو الذى انفجر فى جنوب قرغيزستان (مدينة أوش ومدينة جلال أباد) الذى يضمّ نحو المليون من الأوزبك من أصل عدد السكان الذى يبلغ خمسة ملايين ونصف المليون.
لم تقتصر نتائج الرسم العشوائى للحدود السياسية فى العهد الستالينى على زرع القنابل الإثنية والقبلية، ولكنها أدّت أيضا إلى زرع قنابل حول الموارد الطبيعية، فالثروة المائية غزيرة جدا فى المناطق الجبلية من طاجكستان وقرغيزستان، وفى الوقت الذى تتطلع فيه هاتان الدولتان إلى إقامة سلسلة من السدود على مجارى الأنهار لتوليد الطاقة الكهربائية، تعترض بشدة كل من أوزبكستان وكازاخستان الغنيتان بالنفط.. ولكن المعدمتان تقريبا من الموارد المائية.. فاعتمادهما يكاد يكون كليا على الأنهار التى تنبع من جارتيهما.. على نحو ما هو قائم حاليا أيضا بين تركيا من جهة، وكل من سوريا والعراق من جهة ثانية بالنسبة لنهرى دجلة والفرات.
يضاف إلى هذا الموروث الذى يحمل قوة تفجيرية خطيرة أمران لا يقلان خطورة أيضا، الأمر الأول هو أن التعدد القبلى والإثنى فى قرغيزستان كالتعدد الدينى والمذهبى فى لبنان، أملى نظاما سياسيا داخليا يقوم على الديمقراطية، أو على شىء منها.
وقد أدت الممارسة الديمقراطية المضطربة إلى انفجار حركتين تغييريتين حتى الآن أطاحتا برئيسين سابقين للدولة، الأول هو الرئيس عسكر أكاييف الذى كان مواليا لموسكو وحامل لواء ثقافتها، والذى يعمل الآن أستاذا لمادة الرياضيات فى إحدى الكليات فى موسكو، والثانى هو قرمان أكاييف الذى وصل إلى السلطة بدعم الولايات المتحدة مقابل التزامه بالمحافظة على مصالحها العسكرية فى الدرجة الأولى وقد دعم الروس الحركة الأخيرة التى أطاحت به، وهو يقيم الآن لاجئا سياسيا فى روسيا البيضاء.
وأدى التعدد ايضا إلى اعتلاء امرأة سدة الرئاسة الأولى هى السيدة روزا أونونيافا، وهى ظاهرة غير موجودة فى أى دولة من دول آسيا الوسطى سوى فى قرغيزستان.
وبالمقابل تمسك بالسلطة فى كل من أوزبكستان وكازاخستان قبضة حديدية، تتمثل فى الدولة الأولى بالرئيس كاريموف وفى الثانية بالرئيس نورى سلطان نزرباييف، والأمر الأساس الذى أسفرت عنه سياسة القبضة الحديدية هذه هو فرض الاستقرار فى الداخل، خلافا لحالة اللا استقرار التى سادت قرغيزستان والمستمرة فيها حتى الآن.
أما الأمر الثانى الذى يحمل قوة تفجيرية خطيرة، فإنه يتمثل فى تضارب مصالح ثلاث من الدول الكبرى وفى تصارعها حول السيطرة والنفوذ فى آسيا الوسطى، وهذه الدول هى روسيا والولايات المتحدة والصين فلكل من موسكو وواشنطن قاعدة عسكرية كبيرة فى قرغيزستان، وتشكل القاعدة الأمريكية رأس جسر للإمدادات العسكرية إلى أفغانستان، ولذلك فإنها تعتبر ركيزة أساسية فى الإستراتيجية الأمريكية فى المنطقة إلا أن وجود هذه القاعدة يقلق روسيا التى تشعر بأن الوجود العسكرى الأمريكى من جهة الشرق (قاعدة قرغيزستان) ومن الغرب (تمدد حلف شمال الأطلسى فى دول أوروبا الشرقية) يمثل تهديدا لها.
ويبدو أن الكرملين استطاع أن يقنع الرئيس القرغيزستانى باكاييف بعدم تجديد العقد مع الولايات المتحدة وإقفال القاعدة، إلا أن واشنطن أغرت الرئيس باكاييف بزيادة التعويضات المالية المخصصة بدلا لاستعمال القاعدة فكانت النتيجة الحركة الانقلابية التى أطاحت به.
وقفت الصين فى الوسط بين صراع الكبيرين: الروسى والأمريكى ذلك لأن ما يهم بكين فى الدرجة الأولى هو ألا تنتقل عدوى الحركات الاحتجاجية والانقلابية المرتكزة إلى الانتماء الإثنى إلى إقليم سانكيانج المتاخم لدول آسيا الوسطى والذى يختلف إثنيا ودينيا عن العمق الصينى. وقد شهد هذا الإقليم مؤخرا حركة تمرد أخمدتها القوات الصينية بالقوة، مما أدى إلى سقوط المئات من الضحايا.
ويهم الصين كذلك المحافظة على الطريق الآمن لوارداتها من نفط وغاز آسيا الوسطى الذى ينقل إليها عبر الأنابيب؛ فالتطور الصناعى الصينى الكبير والمتضخم يحتاج إلى المزيد من الطاقة. ولتأمين وصول هذه الطاقة لابد من توفير مظلة من الأمن والاستقرار وهو ما بدأت تفقده المنطقة بصورة مثيرة للقلق.
لا توجد معادلة لتفاهم الثلاثة الكبار؛ فالولايات المتحدة من جهة أولى باتت أكثر اعتمادا على قاعدتها العسكرية ــ قاعدة ماناس فى قرغيزستان ــ بعد سلسلة العمليات التى قامت بها حركة طالبان فى أفغانستان والتى استهدفت طريق الإمدادات العسكرية الأمريكية، من باكستان إلى أفغانستان عبر ممر خيبر.
والاتحاد الروسى من جهة ثانية بات أشد تمسكا بقاعدته العسكرية التى تمكّنه من التأثير بفاعلية فى صناعة القرارات السياسية فى قرغيزستان وحماية الأقليات الروسية التى بقيت هناك بعد تفكك الاتحاد السوفييتى السابق.
أمام هذه العوامل السياسية الخارجية المتصارعة، والعوامل الإثنية المحلية المتخاصمة، التى فجرت الأوضاع فى قرغيزستان، تتعرّض كل دول آسيا الوسطى إلى مواجهة مصير مقلق ومضطرب، والمعادلة التى بدأت تبرز هناك هى أنه عندما تضعف القبضة الحديدية للسلطة، يبرز دور الدين.
فشعوب المنطقة تدين كلها بالإسلام، وباستثناء طاجكستان التى يغلب فيها المذهب الشيعى ــ الاثنى عشرى، فإن المذهب السنى هو السائد فى بقية هذه الدول غير أن الاسلام لم يلعب ــ أو لم يسمح له بأن يلعب ــ دورا فى توحيد هذه الشعوب، وربما يعود ذلك إلى استمرار ثقافة الحذر من التدين بل ومن رفضه أيضا وهى ثقافة موروثة عن العهد الشيوعى ثم إن الاضطهاد الذى مارسته السلطة السوفييتية السابقة ضد التدين (الإسلامى والمسيحى معا) أدى إلى قيام حركات دينية سرية، خرجت إلى العلن تحت مظلة الاستقلال، خصوصا فى وادى فرغانة إلا أن هذه الحركات لم تكن حركات إصلاح فكرية متطورة، بقدر ما هى حركات تطرف تشدها العصبية أكثر من الثقافة الدينية وهذا أمر طبيعى فى ضوء ظروف نشأتها.
من أجل ذلك تتعرض هذه الحركات إلى قمع شديد من الحكومات المحلية، وحتى من القوى الدولية الثلاث الفاعلة والمؤثرة فى آسيا الوسطى، وإذا كان هناك من عامل مشترك بين هذه القوى الثلاث فهو حذرها من الحركات الاسلامية المحلية وتصدّيها لها، وقد أدى هذا الأمر ليس فقط إلى تعطيل دور الإسلام كجامع وموحد لهذه الشعوب، إنما أدى أيضا إلى التعامل معه كقوة سلبية على النحو الذى جرى ويجرى أيضا فى كل من باكستان وأفغانستان المتجاورتين.
عندما عمل الرئيس السوفييتى جوزيف ستالين على تركيب الحدود السياسية لمنطقة آسيا الوسطى كان هدفه إخضاعها لإدارة الكرملين تسهيلا لاستخدامها موقعا متقدما فى الدفاع عن الإمبراطورية السوفييتية فى مواجهة الإمبراطورية البريطانية التى كانت تتمتع بحضور قوى فى الهند.
أما الآن فقد تحررت الهند.. إلا أنها أصبحت ثلاث دول متعادية، والآن أيضا تحررت آسيا الوسطى الا أنها أصبحت خمس دول فى كل منها قنبلة موقوتة تشكل خطرا عليها.. وعلى المنطقة كلها.
لقد استخدم الدين أساسا لتقسيم الهند.. فكانت سلسلة الحروب والصراعات التى لم تنتهِ منذ عام 1947 حتى اليوم، والآن يمنع استخدام الدين فى آسيا الوسطى أساسا لتفكيك الانقسامات ولمعالجة الصراعات الإثنية والقبلية، الأمر الذى يفتح مستقبل المنطقة على أسوأ وأخطر الاحتمالات، وما حدث فى قرغيزستان قد لا يكون سوى المؤشر الأول.. أو الانذار الأول!.