اختبار السنوات الخمس
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 27 يونيو 2018 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
هناك اختبار صغير فى علم التواصل يقضى بأن يسأل أحدهم إن كان بإمكاننا شرح قضية معقدة لطفل عمره خمس سنوات، الاختبار اسمه أصلا «اختبار السنوات الخمس» بحيث يتم تبسيط موضوع من قبل أخصائى حتى يفهمه شخص غير مختص بالموضوع. أتذكر التمرين حين يسألنى ابنى بسنواته الثمانى إن كان لديه جواز سفر سورى فأجيبه بالنفى. يستغرب الولد إذ إننى، أى أمه سورية. يسألنى إن كانت الأم الأمريكية تمنح جنسيتها لأطفالها فأقول نعم. ثم يسأل عن الأم الفرنسية وعن الأم المصرية واللبنانية والأردنية. أجيب حسب معلوماتى عن كل دولة وقوانينها سواء بالنفى أم بالإيجاب.
***
يستغرب طفلى ويسأل كيف يكون ولد مثله نصفه سورى دون ما يثبت أنه سورى كما هو مصرى فأقول إن بعض الدول تعطى حق منح الجنسية للأب ولا تعطيه للأم. هذه هى المرة الأولى التى يسأل أحد أولادى عن موضوع الجنسية ودور الأب والأم فى منحها. تنهال على الأسئلة فى الساعة التالية من قبل الطفلين الكبيرين دون أن أنجح فى اختبار الخمس سنوات، إذ لا شرح جاهز عندى لأطفال أحاول ألا أفرق بينهم فى المعاملة على أساس الجنس أو النوع فى الحياة اليومية، والأصعب أن لا شرح مقنع عندى لمن لم يدخل بعد إلى عالم القانون والتمييز وأسئلة عن حقوق كثيرة لا تحصل عليها الفتيات والنساء فقط بسبب أنهن ولدن إناثا.
***
لست جاهزة بعد للدخول فى دهاليز النضال النسوى ومناهضة التمييز مع أطفالى. فعالمهم ما زال محكوما بإطار أحاول جاهدة أن أحافظ عليه يعتمد على عدم التمييز بين الناس على أساس جنسهم أو جنسيتهم أو وضعهم المالى أو دينهم. لم يتواجدوا بعد فى موقف يفرض عليهم أن ينتبهوا إلى سمة تميز أفراد عن غيرهم. يتزامن هذا الحديث فى البيت مع خبرين مهمين هذا الأسبوع: الأول هو فوز الإناث فى المملكة العربية السعودية بحق قيادة السيارات، وهو ما أسفر عن تهليل البعض وسخرية آخرين، وخبر قرار المحكمة العليا فى الولايات المتحدة الأمريكية أن من حق الرئيس الأمريكى فرض حظر دخول البلاد على سكان بلاد بعينها.
سوف يمضى عشرات المحللين وقتا طويلا فى تحليل وتفنيد موضوعى الأسبوع، وسوف تمتلئ الأجواء الافتراضية بالتعليقات، وسرعان ما سوف يسألنى الأولاد عن حكمة عدم قيادة النساء للسيارة ومعنى ألا يسمح لشعوب بأكملها من الدخول إلى بلد بحكم قانون يميز ضد بلاد بعينها.
أعترف أننى لم أتخيل منذ عشرين سنة مضت، وأنا أبدأ طريقى فى العمل الإنسانى والحقوقى، أن نصل إلى مرحلة يهلل فيها المجتمع الحقوقى لقيادة سيارة أو يقف كمن يشاهد فيلم رعب بسبب انسلاخ أطفال فى أمريكا عن ذويهم المهاجرين.
***
كنت أسمع ممن يكبروننى سنا باستمرار عن سياسات وعادات كانوا يصنفونها بأنها كانت أسهل أو أكثر أخلاقية فى شبابهم فيما كنت أرى عالمهم على أنه قديم، فكنت أهز برأسى دون أن أبوح ما فى سرى: هم يرونه أفضل لأنهم كبار فى السن وقد فاتهم قطار الشباب فلم يستطيعوا اللحاق بالمفاهيم الجديدة. وها أنا اليوم أنظر حولى متسائلة إن كان هذا فعلا ما حلم به من لم يمت فى الحربين العالميتين الأولى والثانية وما كان بذهن من وضع الأطر القانونية بعد إنشاء منظومة الأمم المتحدة عام 1947 حين تعهد القادة أن يعملوا ما بوسعهم لإحلال الأمن والسلام.
أترانى أيضا من ركاب القطار القديم بنظر من يصغروننى سنا اليوم، فيهزون رءوسهم كما كنت أفعل وهم يستمعون إلى قصص أرويها عن آلة كاتبة استعرتها من صديقة فى سنوات الدراسة، قبل أن يصبح جهاز الحاسوب من أساسيات الحياة اليومية سواء كان فى البيت أو فى مكان عام؟ هل يصدقون أننى كتبت رسالة الماجستير قبل أن يحل نظام جوجل مكان الموسوعة البريطانية الثقيلة التى كانت تزين المكتبات العامة؟ هل يعرفون أصلا أن المكتبة العامة كانت مكان وجود معظم معلومات؟ هل يعرفون ذلك المزيج من روائح الورق والغبار الذى كان يلتصق بالأنوف خلال سنوات الدراسة؟
***
هناك لحظات من السعادة البسيطة، غير المركبة، التى تأتى على شكل ازدحام مطبخ بيتنا قبل موعد وجبة العشاء، أو عند الاستيقاظ فى صباح يوم الجمعة ببطء، دون توتر أيام العمل والدراسة. هى لحظات لا تقدر بمال ولا مكان للسياسة والأحداث فيها. أتمنى أحيانا أن يغلق علينا أحدهم الباب من الخارج وينسانا هنا حيث تتغير ألوان المكان مع حركة الشمس خارج الشباك، وحيث رائحة الزعتر والخبز الطازج تعنى أن لا مكان سوى للحب وللقمة تقع من فم الصغيرة فيلتقطها الولد الأوسط ويلتهمها بينما تنهره هى.
***
لا أريد الخروج من هنا قبل أن يعود العالم إلى بعض من رشده فلا أخجل أمام أولادى حين يسألونى عن الأخبار. لن أخرج قبل أن أعطيهم ما سوف يقيهم من خيبات أمل سوف تقع عليهم كالصفعة حين يكتشفون أن الأحداث أسرع كثيرا من قدرتى على تفسيرها، أنا المخضرمة فى السياسة الدولية والقانون. يبدو أننى سوف أبقى هنا، قرب الفرن، أشوى كعكة وأضع عليها ورودا من السكر، إذ إن العالم بات يفتقد الألوان وهو يصنف الناس والشعوب باللون الأسود... أو الأسود. فكيف أنجح فى اختبار السنوات الخمس؟