خرائط الهدر.. والبحث عن خطط محلية تواكب الأهداف العالمية
نبيل الهادي
آخر تحديث:
الخميس 27 يوليه 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
فى الربيع الماضى بدأنا، مجموعة من طلابى وطالباتى وأنا، فى استخدام مخرجات خرائط الهدر لكى ندرس إلى أى مدى يمكن أن نطرح خطة مفصلة للتحول باتجاه القُصير كمدينة مستدامة تواكب الأهداف العالمية التى تخص التغير المناخى وتلك التى تستهدف حماية التنوع الطبيعى. ولأن عدد الطلبة والطالبات لا يكفى لدراسة كل مناطق المدينة المختلفة قمنا بتشكيل ثلاث فرق تغطى كل منها أحد الأنشطة الرئيسية القائمة فى المدينة حتى يمكننا الخروج بصورة متكاملة. أول هذه الفرق تخصصت فى العمل على منطقة سياحية، والثانية تعمل على المنطقة التاريخية والمنطقة السكنية المجاورة لها، أما الثالثة فتقوم بدراسة ما يمكن عمله فى المنطقة الصناعية والتى توقفت الآن عن إنتاج الفوسفات.
تبنينا فى الفرق الثلاثة منهجية متماثلة تقوم على دراسة كيفية الاستفادة من البيانات التى خرجنا بها من خرائط الهدر لتحديد خارطة طريق للتحول المستدام، أو كما فهمنا من طبيعة العمليات الطبيعية التى أبقت كوكبنا مستداما عبر ملايين السنين، والتى لم تعد مستمرة لأنها ببساطة لا تنتج هدرا. هذه المنهجية تتمثل فى استراتيجية واضحة تبدأ بتقليل الطلب ثم التركيز على كفاءة الاستخدام ثم ثالثا الاستعانة بالموارد المتجددة.
ففى المنطقة السياحية مثلا كان يجب أن نبدأ أولا بتخفيض الاستهلاك ما أمكن حتى يمكن تخفيض كمية الهدر أو المخلفات. فمثلا ناقشنا مدى إمكانية تأثير أن تطرح القرى السياحية برامج إقامة أطول بحوافز أفضل، وهو ما يعنى أن يتم تقليل استخدام الطائرات للنصف مما يتيح تقليلا كبيرا للغازات المنبعثة من التنقل بالطائرات. كما ناقشنا مثلا تشجيع القرى السياحية على إتاحة أماكن خارجية مظللة أكبر مع تقليل استخدام المساحات الداخلية العامة المكيفة مما يتيح تقليلا كبيرا أيضا فى استخدام الطاقة.
أما الخطوة الثانية بعد التقليل فهى الاستخدام الكفء للموارد المتاحة، فمثلا تحسين العزل الحرارى للأسقف والحوائط الخارجية يمكن أن يساهم إلى حد كبير فى تخفيض الطاقة المستهلكة، ويمكن هذا أيضا إذا أضيف له تحسين استخدام التهوية الطبيعية التقليل إلى حد كبير من الاعتماد على استخدام المكيفات الهوائية وما تستهلكه من طاقة كبيرة.
جزء لا بأس به من الانبعاثات الغازية ناتج عن الفقد الكبير فى الطاقة الناتج من نقلها من أماكن بعيدة (هذا الفقد يقارب ثلاثة أضعاف الفقد تقريبا مقارنة بالمدن الأخرى خاصة القريبة من محطات توليد الطاقة) وذلك لأن مدينة القصير ليس بها محطات لتوليد الطاقة. لذا، كان أحد البدائل المطروحة مثلا لتقليل الانبعاثات الغازية الناتجة عن الاستهلاك الكبير للطاقة فى القرى السياحية هو استخدام أسقف المبانى السكنية خاصة الأقرب لتلك القرى السياحية لتركيب عدد من الخلايا الشمسية التى يتم ربطها معا وتكوين ما يعرف بمولد افتراضى للطاقة يمكن أن ينقل جزءا كبيرا من الطاقة المولدة لتلك القرى القريبة بما يفيد ساكنى تلك المبانى ويقلل من الانبعاثات الناجمة عن استهلاك الطاقة الناتجة عن حرق الوقود الأحفورى فى أماكن بعيدة عن المدينة. وأظهرت لنا فى تلك المناقشات كيف أن فصل القرى السياحية عن المناطق السكنية القريبة لم يكن فى حقيقته مفيدا لأى منهما، وأن أحد المخارج للتحديات التى نواجهها هى فى مراجعة تلك العلاقة بصورة جذرية وبما يخدم كلا الطرفين.
بينما شكل النقص العددى للدارسين وقصر المدة الزمنية بالإضافة إلى تحديات أخرى محددا فى قدرتنا على الخروج بنتائج موثوقة، لكن مناقشاتنا أوضحت خاصة فيما يخص الانبعاثات الغازية وهى التى تتعلق بأهداف التغير المناخى بصورة مباشرة أنه؛ بينما يبدو ممكنا إذا بدأنا العمل فورا وتوافرت إرادة مالكى تلك المناطق السياحية ودعمتها السياسات الحكومية والحوافز المناسبة مع ربط الحلول بتحسين حياة الناس فى المدينة، ربما هنا يمكننا الاقتراب من الهدف الموضوع للعام ٢٠٣٠. من ناحية أخرى، يبدو أن الانبعاثات الصادرة عن حركة الطيران ما لم يحدث اختراق تقنى كبير فى وقود الطائرات تجعل من إمكانية الوصول لهدف صفر انبعاثات بحلول العام ٢٠٥٠ موضع شك.
• • •
ناقشنا أيضا كيفية التعامل مع المناطق التاريخية، أى يجب أن نهتم أولا بتهيئة البنية الأساسية لتلك المنطقة قبل أن نحاول جذب مشروعات لإعادة استخدام المناطق التاريخية، والتى يتسرع البعض للمطالبة بعمله أولا وذلك لأن البنية الأساسية تستهدف المنطقة ككل وتهيئتها بما يؤمن تحولا أكثر استدامة وعدلا لسكانها وخبرة أفضل وأغنى للزوار والسائحين المنتظرين. فمثلا يمكن استخدام أسطح المبانى (حتى الشاغرة منها) فى توليد الطاقة لحساب القرى السياحية القريبة مما يساهم فى توليد دخل للمكان، كما يمكن اجتذاب نوعيات من السياحة مثل سياحة المتطوعين الذين يقومون من خلال وجودهم فى المساهمة فى الحفاظ على البيئة الطبيعية وتعليم أفراد المجتمع.
بالرغم من اعتمادنا على تلك الاستراتيجية وعلى بيانات خرائط الهدر إلا أننا ومع بداية مراجعتنا لخلاصة ما تم التوصل إليه ظهر مدى صعوبة المهمة التى تستهدف رسم خارطة طريق للالتحاق بالأهداف العالمية. لكنى أعتقد أن هذا فى ذاته هام للغاية لأننا نستطيع أن ندرس ونقدر ما نحتاجه من تدخلات سواء من خلال مشروعات على أرض الواقع أو من خلال سياسات مع توقيتاتها كما يمكن أيضا تطوير تلك الدراسات لنرى ما يمكننا تحقيقه من خلال مواردنا الذاتية والتى يمكن لها أن تشكل بداية جادة لتحول نستفيد منه محليا، لكنه مهم جدا أيضا إقليميا ودوليا. كما سنستطيع أن نحدد بصورة أفضل أين هى تلك الفجوات ومقدارها ومن هم المؤهلون داخليا أو خارجيا للمساهمة فى ردم تلك الفجوات.
• • •
فى النقاش النهائى وبحضور ضيوف من كبار الأكاديميين بالولايات المتحدة كان واضحا أن التركيز على تفاصيل الحلول لا يكفى لمواجهة المشاكل والتحديات التى نتعامل معها، التى هى فى جوهرها مركبة أجزاؤها مترابطة محليا وإقليميا ودوليا وهو ما يتطلب وجود رؤية متكاملة ومتسقة وشاملة يمكن من خلالها تناول الجزئيات سواء ما يخص المناطق السياحية أو مناطق الإسكان والمناطق التاريخية وأيضا المناطق الصناعية مع تناول ارتباطاتها فى السياقات المختلفة. وفى محاولة للرد على هذا النقد ولأننا نتعامل مع منظومة إيكولوجية اجتماعية بدأت بالتفكير بصوت عالٍ وطرحت تساؤلات حول إمكانية فهم مهنة الصيد كأساس لتلك الرؤية واستطردت فى شرح ما بدا لى حلا لذلك المأزق، وهو ما قمت بتطويره لاحقا فى المقال الذى نشر هنا عن كيف يمكن أن نعيد النظر لمهنة الصيد كإطار عام للتعامل المتوازن مع الطبيعة وهو ما يرتبط بالناس والتاريخ والبيئة الطبيعية التى دعمت وجود مدينة القصير منذ آلاف السنين، وما تزال تلك البيئة الطبيعية بحاجة لبذل جهود كبيرة ورعاية فائقة لتستعيد صحتها وحيويتها حتى تستطيع أن تستمر فى دعم وجودنا. وكانت هذه الرؤية مبنية على نتاج مقابلات مطولة مع العديد من الصيادين والأساتذة الدارسين والعاملين على رعاية البيئة الطبيعية وبعض سكان المدينة عبر الشهور والسنوات الماضية.
يذكرنا هذا أيضا بأهمية توليد رؤى عامة محلية للتحول المستدام تتعامل مع خصوصية المكان والأنظمة الإيكولوجية والمجتمعية به وذلك فى مواجهة تبنى الرؤى التى تم تطويرها فى أماكن أخرى ولا تحمل نفس الحساسية، وربما لا يكون لها نفس الفاعلية. كما يذكرنا ذلك بأهمية الوضوح والخيال التى تطرحه هذه الرؤية المحلية مقارنة بالحلول المتفرقة التى يغلب عليها الطابع التقنى فقط دون التطرق لما يمكننا من تطوير سردية متماسكة نستطيع من خلالها مناقشة وتصور مستقبلنا فى مواجهة التحديات الكبيرة التى نواجهها وخاصة نتائج التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى، الذى يكون فى أوضح صوره فى المناطق التى تعانى من ندرة الموارد الطبيعية مثل المياه، وهشاشة المنظومات الإيكولوجية مثل منظومة الشعاب المرجانية والمنظومات الساحلية والبحرية الأخرى.