علاقات عكسية وطردية (1 - 2)
عمرو هاشم ربيع
آخر تحديث:
الخميس 27 يوليه 2023 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
العلوم الاجتماعية علوم إنسانية، وهى بذلك من الصعب التنبؤ بها، على عكس العلوم الطبيعية التى يسهل التوقع والتنبؤ فيها. فى العلوم الطبيعية يسهل وضع العلاقات ورصد النسب وتأسيس النظريات وتأكيد أو دحض المحتملات والتخمينات، على العكس من العلوم الاجتماعية التى تحتاج دومًا لاستطلاعات رأى، وملاحظة الجماعات والأعراق والإثنيات، وتبين سلوكها وردود أفعالها، ورصد التباين فيما بينها وأسبابه. على هذا النحو ينكر الكثيرون إلحاق كلمة علم أو علوم بالشأن الاجتماعى، وينعتون كل ما هو مرتبط بالفيزياء والطبيعة وعلم الكائنات بالعلوم، على اعتبار أن العلم يطلق على الثابت، ولا علم لكل ما هو دينامى.
لذلك فإن بناء علاقات عكسية أو طردية للسلوك الإنسانى بنسبة 100% يعد ضربًا من المستحيل، ومن ثم يشير الكثير من الباحثين فى العلوم الاجتماعية (إن جاز أن نطلق عليها لفظ علوم) فى أبحاثهم إلى عبارات (يميل/ يتوقع/ على الأرجح/ قد/ لربما). لذلك كله، فإن الكثير من البحوث الاجتماعية تعاد وتكرر فى نفس المجتمعات مع تباين الوقت، أو يقوم بها الباحثون فى مجتمعات متعددة فى ذات الأوقات، وقد يخرج الكثير منها بنتائج مختلفة.
واحد من العلاقات المهمة التى يمكن أن يشير إليها الباحثون فى الشأن الدينى، هو بناء علاقة طردية بين التبحر فى الثقافة من ناحية والإلحاد من ناحية أخرى. بمعنى أنه كلما كان الباحث مثقفًا وواسع الاطلاع، كلما كان أقل إيمانا بالمطلق أو الميتافيزيقا، على اعتبار أن القراءات والأطر المرجعية لعديد الأدبيات، يشجع غالبيتها على التجريد والتجريب والرؤية والملاحظة والعلم، وهو أمر قد يرتبط عكسيًا فى بعض أركانه مع الإقرار بالأديان السماوية المرتبط بالإيمان بالغيبيات والمطلق. بعبارة أخرى، يربط الكثيرون بين نفى المطلق وزيادة الإلحاد من ناحية، وبين سعة الاطلاع والانخراط خاصة فى الكتابات الفلسفية والوجودية، وغيرها من الكتابات التى تناقش كافة الأمور بشكل علمى قائم على الأدلة الثبوتية والقطعية من ناحية أخرى. المؤكد أن أصحاب هذه المدرسة الفكرية لا يميلون إلى الاطلاع أو حتى نقاش لوجهات نظر مقابلة تربط بين العلم والأديان السماوية، فتناقش وجود الذات الإلهية، والإعجاز العلمى فى القرآن الكريم وغيرها من الأمور التى يعكف البعض على الربط فيها بين الله والعلم.
علاقة أخرى لكنها عكسية، وتلك العلاقة تربط بين قيم الأصالة والثراء المادى. وهى علاقة تعطى مؤشرا رغم كونه احتماليا إلا أنه مهم، هذا المؤشر يربط عكسيًا بين المستوى الطبقى للفرد، من حيث كونه منتميا للطبقة العليا وبين كونه ملتزما بالقيم والمعايير الثقافية المتسمة على الأرجح بالنبل، والنخوة، والنجدة، والكرم، وإقامة الشعائر الدينية خاصة ذات الطابع الاجتماعى كالزكاة والصيام، واحترام الكبير والعطف على الضعيف، ومساعدة المحتاج وإطعامه وإغاثته، والعمل الطوعى الاجتماعى لمساعدة كل من يُستشعر الحاجة لمد يد العون فى الزواج والمرض والخروج من زمرة الغارمين. المؤكد أن تلك العلاقة تتسم بالصعوبة، لأنها تقول إن المحتاج أو من كان وقتًا ما محتاج، هو أكثر من يشعر بالفقير، وأن الغنى هو عادة ما لا يشعر بمن حوله من المحتاجين والفقراء. هنا يحضرنا الحديث النبوى الشريف الذى يمتدح من يحنو على الفقير، ويقول إن الأكثر فضلا من كان محتاجا ولديه تلك القدرة. بمعنى أن أفضل الناس من أجبر نفسه على العطاء وهو نفسه من زمرة المحتاجين أو غير الأثرياء. المؤكد هنا أيضًا أن هناك من ينتمى للطبقة العليا ولديه قدر معتبر من إنكار الذات ومساعدة المحتاجين.
علاقة ثالثة مهمة أيضًا، تتصل بما سبق مباشرة، وهى الربط العكسى بين الفقر والتواضع. هذه العلاقة تشير إلى أن الفرد كلما كان منتميًا إلى الطبقات الاجتماعية الدنيا، كان أكثر ميلا للتواضع. وبالعكس كلما كان الشخص من المنتمين للطبقات الاجتماعية العليا، كلما كان يزهو بنفسه، ولا يحترم المشاعر الإنسانية لمن أمامه، ومن ثم كان الكبر هو المتحكم فى سلوكه. بالتأكيد أن هناك عوامل وسيطة تتعلق بتلك العلاقة وعلى رأسها مستوى التعليم والتدين. بمعنى أن الشخص لو كان متدينًا مال سلوكه للتواضع حتى لو كان ثريًا. وأن الشخص لو كان أميًا وثريًا معًا، ولا يزجر سلوكه أى وازع دينى كلما كان متكبرًا، بل ربما متعجرفًا ولا يشعر بآدمية الآخرين سواء كان هؤلاء من المنتمين للطبقات الاجتماعية العليا أو الدنيا.
وهكذا يتبين أن الأمور المتعلقة بالشأن الاجتماعى على الرغم من وجود دراسات بشأنها، إلا أنها تحتمل وجود ميل أو اتجاه ناحية هذا أو ذاك دون حسم الأمور.