السياسى والعسكرى فى الأزمة الليبية
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 27 أغسطس 2014 - 10:56 ص
بتوقيت القاهرة
تغالب الأسئلة إجاباتها، فالاحتكام إلى السلاح أفلت من قيوده وليبيا على منحدر سيناريوهات أكثر دموية ورعبا.
المبادرة المصرية التى طرحت على دول الجوار الليبى لنزع متدرج لسلاح الميليشيات أقرب إلى أمنيات تفتقد إلى أى أساس تقف عليه.
لا نزع ممكنا لأى سلاح دون حل سياسى وتوافق واسع على أسس إعادة بناء دولة تفوضت مؤسساتها كليا ولا يوجد لديها قوات مسلحة أو أجهزة أمنية بأى معنى شبه حديث.
الحل السياسى مستبعد فى أى مدى منظور وكل شىء مؤجل لحين استقرار الحقائق على الأرض فى احتكامات السلاح.
الكلام الدبلوماسى فى نص ذات المبادرة عن رفض أى تدخل أجنبى فى الشأن الليبى أقرب إلى غض بصر بصياغات قانونية دولية عن الحقائق على الأرض وما تؤكده من توغل التدخلات.
فى بلد منكشف بالكامل فإن كل ما يتحرك فوق تضاريسه السياسية والجغرافية عابر للحدود وله تحالفات إقليمية تسند مواقفه وتمول وتدرب ميليشياته وكلمتها نافذة فى توجهاته.
التدخل المباشر سمة رئيسية فى الصراع على ليبيا.
معضلة المبادرة المصرية أن هناك منازعة على الشرعية بين برلمان منتخب يجتمع فى طبرق بالقرب من الحدود وبرلمان انتهت ولايته يزمع انعقادا جديدا، الأول شرعى لكنه يقف على أرض قلقة والثانى يفتقد إلى أية شرعية باستثناء قوة السلاح وشىء من السيطرة على العاصمة طرابلس.
هناك منازعة بالسلاح على المصير الليبى، فالذين خسروا الانتخابات النيابية يطلبون تغيير المعادلات السياسية وحسم الصراع بالقوة.
لأول مرة منذ تأسيس دولتها تشهد ليبيا حكومتين، أحدهما تستند إلى البرلمان المنتخب برئاسة «عبدالله الثنى» والأخرى بقوة السلاح برئاسة «عمر الحاسى».
المبادرة المصرية تعهدت بتقديم «المساعدة للحكومة الليبية لتأمين حدودها» قاصدة الأولى لا الثانية.
هذه نصف خطوة يصعب أن تستكمل نصفها الآخر، فهذه الحكومة من ناحية أعجز فى أوضاعها الحالية من أن تؤمن حدودها بينما بيت رئيسها فى العاصمة طرابلس يقتحم نهبا وحرقا بلا أدنى مقاومة ومن ناحية أخرى، فإنها إن لم تؤكد نفوذها على الأرض فسوف تخسر بعد قليل أية اعترافات دولية بها.
للكلام الدبلوماسى أسبابه فى استدعاء البحث عن شىء من التوافق الصعب بين دول الجوار الليبى التى طُرحت المبادرة عليها، فمصر يصعب أن تحفظ أمن حدودها دون توافقات مع دول الجوار الأخرى التى تتهددها النيران المشتعلة بدرجات مختلفة لكنه لابد من إدراك أن التوقف عند الحدود الدنيا يفضى إلى إرباك إدارة الأزمة وإصابتها بـ«شلل رباعى» يعوق القدرة المصرية على الحركة حفظا لأمنها القومى ودرء الأخطار التى تداهمها من على حدودها الغربية.
ليس بوسع دولة تحترم أمنها القومى وتتهددها أخطارا وجودية أن تستبعد فى مواجهتها أية خيارات ممكنة لكنها لا تملك أن تخاطر بدون تهيؤ للحركة وأن يكون رأيها العام مدركا للأخطار ومستعدا لاحتمال التكاليف.
احتمالات التدخل العسكرى بعيدة لكنها ليست مستبعدة. الرئيس «السيسى» نفسه لم يستبعد مثل هذا الاحتمال عندما قال إن مصر لم تتدخل عسكريا فى ليبيا «حتى الآن».
التدخل غير التورط، فالأول عمل سياسى بالقوة والثانى حماقة سلاح. بحسب معلومات محققة فلا أحد فى مصر يطلب التدخل لكنه قد يكون اضطراريا، ومن المهم تحديد النقطة التى يكون بعدها لا مفر من التدخل.
بمعنى آخر فإن الحركة على مستويات متعددة من ضرورات إدارة الأزمة التى لا تملك مصر أن تتقاعس عن مواجهتها فـ(٨٠٪) من السلاح الذى جرى تهريبه لمصر خلال ما يقارب أربع سنوات مر عبر الحدود الغربية ومولته دولا إقليمية وعرف طريقه إلى مكامنه فى الداخل. للجماعات التكفيرية كـ«أنصار بيت المقدس» صلتها مع مثيلاتها الليبية مثل «أنصار الشريعة».
تقسيم ليبيا يضرب الأمن القومى فى عموده الفقرى وفكرة التقسيم تنزع عن الرئاسة المصرية الجديدة ما يتطلع إليه عالمها العربى من دور فى الحفاظ على الدول الوطنية التى تتعرض بقسوة للتفكيك والانهيار.
هناك مصالح استراتيجية أخرى فى تأكيد حتمية أن يكون هناك دور مصرى فاعلا، فوجود أية قاعدة عسكرية أو حضور أجنبى فى ليبيا يهدد مصر فى صميم أمنها القومى.
فى عام (١٩٦٧) تحركت طائرات أمريكية من قواعد عسكرية تتمركز فى ليبيا وشاركت فى المجهود الحربى الإسرائيلى.
يحسب للعقيد «معمر القذافى» رغم أية أخطاء وخطايا اقترفها أنه طرد فى بداية حكمه القواعد الأمريكية والبريطانية، وهذه كانت مقدمة لتغيير جوهرى فى استراتيجية جنوب المتوسط ردفها باستضافة الكلية البحرية المصرية وقوات أخرى للتدريب بعيدا عن مدى النار الإسرائيلى.
بتلخيص ما فإن ليبيا عمق استراتيجى لأى دور مصرى مستقبلى وعمق أمنى يحفظ سلامة حدودها وعمق اقتصادى فى أية مشروعات نهوض محتملة فهناك بأقل التقديرات (1.2) مليون مصرى يعملون فى بلد تعداده السكانى يتراوح ما بين (٦) و(٧) ملايين نسمة.
إن كان ممكنا بالوسائل السياسية درء الخطر الداهم على الحدود فهذا أفضل الخيارات وأقلها كلفة لكنه احتمال قريب من التجديف فى مياه ضحلة.
الحقائق الأساسية لا ترجح مثل هذا الاحتمال فالصراع على ليبيا بالنسبة لأطراف عديدة مسألة حياة أو موت. حلفاء جماعة الإخوان من قوى إقليمية وجماعات مسلحة يرونه فرصة أخيرة للتواجد على أرض «شبه صلبة» بعد تقليص نفوذهم فى مناطق أخرى أهمها مصر والمعسكر الآخر لن يسمح تحت أى ظرف أن تتحول ليبيا إلى حالة «شبه داعشية».
قبل الحسم العسكرى فى الميدان الليبى فالكلام عن الوسائل السياسية محض نوايا طيبة.
الأطراف كلها تحتاج إلى أحاديث الدبلوماسية لتوفير الغطاءات الدولية والقانونية لتصرفاتها التى تعمل على تعديل موازين القوة العسكرية حتى تتحدث بالطريقة التى تناسب مصالحها وتفرض كلمتها استنادا إلى حركة القوات لا بلاغة الكلمات.
السعى السياسى لبناء أوسع توافقات إقليمية ودولية فى إدارة الأزمة الليبية ضرورى فى كل الاحتمالات، فلا حل سياسيا وإن طال أمده بلا توافقات من مثل هذا النوع تبنى بدأب، فإن لم تبن على الإرادة العامة لليبيين التى تطلب عودة الدولة ونزع سلاح الميليشيات وبعضها تكفيرية تناهض فكرة الدولة فإن ما هو سياسى مصيره السقوط تحت الأطلال المتهدمة.
أمام نقطة تحول مفصلية فى الأزمة الليبية فإنها تبدو كبروفة لصدامات دموية أكثر بشاعة ورعبا.
دور السياسة أن تتأهب دون أن تتورط، أن توسع دائرة الحركة لا أن تضيق خياراتها، أن تحاور الأطراف العربية والإقليمية والدولية لأبعد مدى تستطيعه دون أن تستبعد خيارا واحدا بما فى ذلك خيار التدخل العسكرى إذا ما كان اضطراريا.