عبد الحافظ حلمي محمد.. العلم واللغة
محمد زهران
آخر تحديث:
الأحد 27 أغسطس 2017 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
كثيراً ما تتملكني الحيرة ممن يبدع في أكثر من ميدان، سبب هذه الحيرة أنك كي تبدع في مجال ما يجب أن تحبه وتبذل جهداً كبيراً لتصل إلى ما تريد وهذا صعب في مجال واحد فما بالك بمجالين أو أكثر، لذلك كانت تدهشني شخصيات مثل هربرت سايمون (Herbert Simon) الذي حصل على جائزة تيورينج (Turing Award) أرفع جائزة في مجال الكمبيوتر كما حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد والدكتوراه الفخرية من هارفارد في القانون!! وأيضاً ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء ويعد من أبرع المدرسين وهذا نادر جداً ... ناهيك عن ماري كوري الحاصلة على جائزتي نوبل في الفيزياء والكيمياء ولينوس باولينج (Linus Pauling) الحاصل على جائزتي نوبل في الكيمياء والسلام!
إذا كان ذلك مدهشاً فإن من يبدع في عدة مجالات وهو في مصر (أو أي بلد نامي) حيث الإمكانيات أقل والصعوبات أكثر يعتبر أكثر إدهاشاً وقد تكلمنا في مقال سابق عن الدكتور محمد كامل حسين رائد جراحة العظام في مصر والمؤلف البارع في الأدب ومن القليلين الحاصلين على جائزة الدولة في العلوم والآداب!!
مازلت أعتقد أن الإبداع في عدة مجالات صعب مهما أوتيت من براعة وذكاء ومهارات ما لم يتحقق شرط أساسي: يجب أن يكون عندك هدف أساسي واحد وأن تكون كل المجالات التي تعمل فيها موجهة نحو هذا الهدف إذا فالتركيز يكون نحو هذا الهدف ولكن لو كنت تعمل في مجالات مختلفة ولا يجمعها في عقلك هدف ما فلا أعتقد أنك ستبدع في كليهما.
شخصيتنا اليوم عن عالم قدير أبدع في مجالين إبداعاً كبيراً ... نتكلم اليوم عن الدكتور عبدالحافظ حلمي محمد.
وُلد عالمنا في أسيوط في أبريل سنة 1926.
أمضى عبد الحافظ حلمي محمد دراسته ما بين محافظتي أسيوط والقاهرة وإنتهى به المطاف في التوفيقية الثانوية بالقاهرة حيث حصل على التوجيهية سنة 1942، في أثناء الدراسة الثانوية فاز في مسابقة الأدب العربي على مستوى "المملكة" فإعتبر ذلك علامة على متابعة دراسة اللغة العربية و لكن كان الضغط عليه كبيراً ممن حوله لدراسة العلوم لأن لها مستقبل أفضل فرضخ للضغط ولكنه لم يترك حلمه كما سنرى.
قبل أن نكمل الرحلة مع عالمنا الكبير يجب أن نلفت النظر أن رغبته في دراسة اللغة العربية لم تكن تعني أنه يكره الدراسة العلمية ولكن فوزه في مسابقة أدبية كان الدافع نحو الدراسات الأدبية وملاحظة أخرى مهمة: دراستك العلمية لا تعني بالضرورة أن تبتعد عن الأدب والعكس صحيح أيضاً فإن دراستك الأدبية لا تعني إهمال القراءات العلمية إن كنت مهتماً بها... الدليل على ذلك هو حصول عالمنا على بكالوريوس العلوم مع مرتبة الشرف سنة 1946 من جامعة القاهرة (فؤاد الأول آنذاك).
حصل على الدكتوراه من جامعة لندن سنة 1952 وكان عنوان رسالته: "دراسة طفيليات الدم فى الطيور المصرية".
هناك مجالان أبدع فيهما الدكتور عبد الحافظ حلمي: العلوم واللغة العربية ... دعنا نتتبع كليهما.
في المجال العلمي: بدأ عالمنا السلك الأكاديمي بالعمل معيدًا في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول منذ تخرجه سنة 1946 ثم بعد حصوله على الدكتوراه أصبح مدرسًا عام 1952، في سنة 1960 نُقل إلى كلية العلوم بجامعة عين شمس على درجة أستاذ مساعد، في جامعة عين شمس أصبح الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد أول أستاذٍ لكرسيٍّ علم الحيوانات الأولية مما يدل على مدى إسهاماته في علم الحيوان في مصر... للدكتور عبد الحافظ عشرات من الأبحاث في علم الحيوان نشرت في الخارج والداخل (عندما كانت المجلات العلمية الداخلية أقوى بكثير من الحال الآن).
كما أشرنا في مقالات سابقة أن من أهم إنجازات أي باحث هم طلابه ولعالمنا الكبير بصمته على أجيال كثيرة تخرجت تحت يديه وإتبعت فلسفته العلمية وآراءه بل و لن نكون مبالغين إن قلنا أن له بصمة على طلاب المدارس أيضاً لأنه شارك في تطوير مناهج علم الأحياء في المدارس الثانوية!
حيث أننا نتحدث عن المشوار العلمي فلن نتكلم باستفاضة عن تقلده منصب وكيل للكلية من 1974 حتى 1976 ثم أصبح عميدًا من سنة 1976 حتى 1979 لأنها مناصب إدارية وليست علمية بخلاف التدرج في المراتب العلمية من معيد حتى أستاذ.
هذا عن المجال العلمي فماذا عن المجال اللغوي؟
الدكتور عبد الحافظ هو مؤسس الجمعية المصرية لتعريب العلوم وأحد أبرز رواد التعريب ليس في مصر فقط بل في الوطن العربي كلها، أهمية (أو عدم أهمية) تعريب العلوم في عصر أصبحت فيه اللغة الإنجليزية هي لغة العلم موضوع كبير وسنتناوله منفرداً في مقال مستقل (وإن كنا قد تكلمنا في موضوع اللغة في مقال سابق) ونتيجة لمجهوداته في تعريب وتبسيط العلوم حصل الدكتور عبد الحافظ على عضوية مجمع اللغة العربية سنة 1992 وأصبح عضواً في لجنة علوم الأحياء والزراعة بالمجمع ثم عضواً في لجان الجيولوجيا والنفط والمعجم الكبيروتحديث المعجم الوسيط وإحياء التراث وهذا دليل واضح على مدى المجهود الكبير الذي يبذله عالمنا الكبير في المجال اللغوي.... بالإضافة إلى مجمع الخالدين فإن عالمنا كان عضواً في جمعيات وهيئات لا تعد ولا تحصى ... طالما كانت الهيئة أو المؤسسة تخدم هدف الدكتور الكبير وهو البحث العلمي وإتاحته للعامة فإن الدكتور يبذل فيها كل جهده.
حصل الدكتور عبد الحافظ حلمي على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية لعام 2001 ... ولن نستفيض في الجوائز لأنها لن تضيف للعالم الكبير بينما يضيف لها هو.
رحم الله عالمنا الكبير رحل عن عالمنا صباح الأربعاء 15 من فبراير عام 2012 عن عمرٍ يناهز 86 سنة.