الأطماع الإسرائيلية فى إدارة المسجد الأقصى
قضايا إستراتيجية
آخر تحديث:
الأحد 27 أغسطس 2023 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
نشرت منظمة المؤتمر الشعبى لفلسطينى الخارج مقالا للكاتب عبدالله معروف، أوضح فيه أن إسرائيل لا تسعى لشراكة دائرة الأوقاف الإسلامية فى إدارة المسجد الأقصى، وإنما تحاول بلوغ هدفها الحقيقى وهو السيطرة الكاملة على إدارة المسجد من خلال تهميش دور دائرة الأوقاف شيئا فشيئا. لذا يدعو الكاتب إلى ضرورة التصدى لأى تدخل إسرائيلى فى شئون المسجد مهما كان صغيرا أو كبيرا لتجنب لحظات الندم... نعرض من المقال ما يلى:
قد لا يستوعب البعض مدى خطورة مفهوم الشراكة فى إدارة شئون المسجد الأقصى المبارك، وقد يدعى آخرون أن عدم الدخول فى «مشاكل» مع سلطات الاحتلال فى المسجد الأقصى يعد الأولوية الأكثر أهمية فى القدس فى هذه المرحلة حتى لو استدعى الأمر التغاضى عن تدخلات الاحتلال فى أمور قد تعتبر هامشية فى المسجد. لكن الحقيقة أكثر قتامة من ذلك، فدخول الاحتلال شريكا فى إدارة شئون المسجد الأقصى يعنى بالضرورة انتهاء فكرة الوضع القائم فى المسجد، والانتقال للمرحلة التالية التى تقتضى إزاحة دائرة الأوقاف الإسلامية شيئا فشيئا حتى تختفى تماما من الصورة وينفرد الاحتلال بإدارة شئون المسجد الأقصى كاملة. هذه الفكرة الخطيرة هى التى تحاول إسرائيل الوصول إليها منذ سنوات.
عند احتلال شرقى القدس عام 1967 حاولت إسرائيل نقل إدارة المسجد الأقصى لوزارة الأديان الإسرائيلية، ولكن رفض علماء القدس واجتماعهم برئاسة الشيخ عبدالحميد السائح لتأسيس الهيئة الإسلامية العليا حال دون ذلك، حيث أعلن السائح بصحبة عدد من الشخصيات العلمية والاجتماعية المؤثرة كالشيخ سعد الدين العلمى مفتى القدس، والقاضى الشيخ سعيد صبرى، والشيخ حلمى المحتسب عضو محكمة الاستئناف الشرعية، والأستاذ حسن طهبوب مدير أوقاف القدس، عن تأسيس الهيئة الإسلامية العليا على غرار المجلس الإسلامى الأعلى الذى تأسس بعد الاحتلال البريطانى لفلسطين، وكان له أكبر الأثر فى قيادة مقاومة الشعب الفلسطينى ضد بريطانيا، خاصة خلال الثورة الفلسطينية الكبرى فى ثلاثينيات القرن الماضى.
كان شبح تجربة المجلس الإسلامى الأعلى ماثلا أمام سلطات الاحتلال الإسرائيلى حينها لتقرر التراجع مباشرة خوفا من تكرار التجربة، ورأت أن الأفضل هو الحفاظ على الوضع القائم وإعادة تسليم شئون المسجد الأقصى المبارك لإدارة الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية الأردنية.
تأتى أقطاب اليمين الإسرائيلى المتطرف اليوم لتصف هذا التراجع بالخطأ التاريخى لإسرائيل، حيث يرى قادة هذا التيار أن هذه القضية خلقت مشكلة سيادة فى المسجد الأقصى، فبينما تتفق جميع أطياف المجتمع الإسرائيلى على ضرورة فرض السيادة الإسرائيلية على القدس باعتبارها عاصمة للدولة ــ حسب الرؤية الإسرائيلية ــ تظهر مسألة السيادة الإسلامية على المسجد الأقصى لتشكل عائقا قانونيا وعمليا أمام رؤية الاحتلال فى المدينة المقدسة.
ولهذا فإن اليمين الإسرائيلى، ولا سيما تيار الصهيونية الدينية، لم يكل يوما من المطالبة بفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على المسجد الأقصى فورا وطرد دائرة الأوقاف الإسلامية من المكان واعتبارها «كيانا إرهابيا».
• • •
لكن السيطرة الإسرائيلية الفعلية على الأقصى لا يمكن أن تتم عمليا بالطريقة التى يتمناها أقطاب اليمين، فهى مجرد رؤى حالمة لا تستطيع أن تفهم الواقع المعقد فى القدس وفى المنطقة والإقليم، ولهذا فإن دعواتها لم تكن تؤخذ على محمل الجدية يوما. وحتى مع سيطرتها على مفاصل أساسية فى حكومة نتنياهو الحالية فإن الواقع يفرض عليها أن تنتقل لأسلوب مختلف لتحقيق أهدافها بالسيطرة الكاملة على المسجد. وللحق، فإن الخطورة الحقيقية تكمن فى التيار الذى يؤمن بالتدرج فى العمل باتجاه فرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى أكثر من ذلك التيار الأول.
إن عملية السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك حسب رؤية التيار المتدرج لا بد أن تمر عبر بوابة الشراكة فى إدارة شئون المسجد أولا، إذ لا يعقل أن تقرر إسرائيل بين ليلة وضحاها أن تلغى دائرة الأوقاف وتتسلم منها الأقصى ببساطة لتدير شئونه، دون أن تحسب حساب الهزات العنيفة التى يمكن أن تنتج عن مثل هكذا قرار مفاجئ، وعلى رأسها إمكانية إقدام الأردن على إلغاء معاهدة وادى عربة. ذلك أن الأردن يرى أن مسألة السيادة على الأقصى والأماكن المقدسة فى القدس تعتبر بالنسبة له مسألة تمس شرعية النظام نفسه.
وإقدام الأردن على خطوة حساسة بهذا الشكل يعنى عودة التوتر لأطول حدود برية لإسرائيل على الإطلاق ــ أى حدودها مع الأردن ــ واستنزاف إسرائيل فى هذا الوقت الحساس الذى يشهد تراجعا إستراتيجيا لها على جميع المحاور، وهذا أمر ليس فى صالح إسرائيل بالطبع.
لذلك، فإن إقحام إسرائيل نفسها شريكا فى إدارة شئون المسجد الأقصى هو الحل الطبيعى الذى يمكن أن يضمن لها إضعاف دائرة الأوقاف الإسلامية شيئا فشيئا وتهميش دورها، حتى إلغائه تماما فى نهاية المطاف.
ولأجل ذلك، نجد شرطة الاحتلال اليوم تقحم نفسها فى عدة ملفات داخل المسجد الأقصى، وقد يبدو بعضها بسيطا أو هامشيا، لكنه بالنسبة لها أساسى لتأكيد سلطتها ووجودها فى المسجد. فعلى سبيل المثال، يقتضى النظام المعمول به تحت إجراءات الاحتلال إغلاق بوابات المسجد الأقصى فى صلوات العشاء والفجر باستثناء باب الأسباط وباب الناظر وباب السلسلة، وكان حراس دائرة الأوقاف الإسلامية يعملون على إغلاق البوابات وتنظيمها بهذا الشكل يوميا بعد صلاة المغرب، لكن أفراد شرطة الاحتلال الإسرائيلية بدأوا مؤخرا يتجولون على البوابات و«يأمرون» حراس الأوقاف بإغلاق البوابات.
ورغم كون هذا التغيير يبدو هامشيا ولا يظهر فيه تغيير كبير فى الإجراءات، فإن إصرار شرطة الاحتلال على أن تعطى هى أوامر الإغلاق يشى بكونها تريد تثبيت نفسها مرجعية وحيدة لفتح وإغلاق البوابات، سواء شكليا أم عمليا. الشىء نفسه يتم فى مرحلة إغلاق المسجد الأقصى بعد صلاة العشاء وتسيير دوريات التفتيش داخله، التى تصر سلطات الاحتلال على تسييرها حاليا بشكل منفرد عن حراس المسجد الأقصى، وهذا يدل على أن الاحتلال يسعى بهذه العملية لإحكام السيطرة على إدارة المسجد سعيا للانتقال لمرحلة الانفراد به.
يزداد الأمر وضوحا عن دراسة السلوك الإسرائيلى فى التعامل مع لجنة الإعمار التابعة للأردن، وهى اللجنة المنوط بها قانونيا العمل على كافة إجراءات الإعمار والترميم والصيانة فى المسجد الأقصى. وكان الاحتلال يحاول فى العقود الماضية الوصول إلى تفاهمات مع الأردن لتحديد عمل اللجنة والمشاركة فى شئون الترميم والصيانة فى المسجد الأقصى لولا الرفض القاطع من السلطات الأردنية. وكان أحد الأمثلة الأبرز على ذلك عملية ترميم السور الجنوبى للمسجد الأقصى فى حادثة انبعاجه خارجيا عامى 2001 و2002، وحينها حاولت سلطة الآثار الإسرائيلية التدخل فى شئون ترميم السور، فرفض الأردن ولجأ إلى اليونسكو والأمم المتحدة بدعم تركى وعربى، لينتهى الأمر بقيام لجنة الإعمار الأردنية بإنجاز الترميم منفردة.
لكن على مدار السنوات الـ15 الماضية، عمل الاحتلال على الانتقال بعملية الإعمار والترميم والصيانة من مرحلة المشاركة إلى الاستفراد الكامل، ليختلف الأمر تماما فى حالة السور الجنوبى الغربى الذى منع الاحتلال الأردن من ترميمه عام 2019 وعمل فيه منفردا.
• • •
للأسف، لم يكن الاحتلال يواجه فى السنوات الماضية مقاومة جادة لعملية إبعاد وتهميش لجنة الإعمار، لينتهى الأمر فعليا فى يوليو 2023 الماضى بإصدار سلطات الاحتلال قرارا بمنع موظفى لجنة الإعمار من إجراء أية عملية صيانة مهما كانت بسيطة داخل المسجد، ووضع شرط أساسى لاستئناف عملية الصيانة يقضى بإغلاق مصلى باب الرحمة الذى فتح خلال هبة باب الرحمة الشعبية عام 2019.
وتداوم سلطات الاحتلال يوميا منذ ذلك الوقت على منع موظفى الإعمار من الدخول والتحرك فى المسجد حتى ما بعد الظهر، لتسمح لهم بعد ذلك بالدخول للمسجد دون إجراء عمليات الصيانة اللازمة، وبذلك فقد فرض الاحتلال نفسه وصيا وحيدا على عمليات الترميم والإعمار والصيانة فى المسجد الأقصى، وهو يريد أن ينقل هذه التجربة لكافة الأعمال الأخرى التى تقوم بها دائرة الأوقاف الإسلامية.
لذلك، فإن الواجب أخذ أى تدخل إسرائيلى فى شئون إدارة المسجد الأقصى المبارك مهما بدا صغيرا أو هامشيا على محمل الجد والعمل على التصعيد ضده ووقفه فورا، وأما ترك الأمور تسير كما يريد الاحتلال باعتبار أن تحركاته هامشية ولا تؤثر بالمجمل على الإدارة الإسلامية للمسجد الأقصى، فإنه يعنى ببساطة تكرار ما جرى مع لجنة إعمار الأقصى، واستفراد الاحتلال بالمسجد، وفى النهاية إلغاء دائرة الأوقاف الإسلامية تماما، وعندها لن يكون هناك وقت للندم.
النص الأصلى