أفندية ذلك الزمان
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
قضيت عدة أيام ممتعة فى قراءة كتاب جميل بعنوان (عصر الأفندية) من إصدارات كتب خان وتأليف الإنجليزية لوسى ريزوفا الباحثة فى جامعة برمنجهام البريطانية، وقد ترجمه بجمال لافت الأستاذ محمد الدخاخنى بحيث بات من الصعب على أى قارئ أن يكتشف أن للكتاب أصلا أجنبيا، وبخلاف جهد المترجم فإن سلاسة النص ترجع هذا إلى فهم المؤلفة للسياق المصرى الذى تبحث فيه وتعبر عنه.
عاشت المؤلفة عدة سنوات فى مصر، وأصبحت على معرفة واسعة بتاريخها، كما امتلكت أرشيفا زاخرا بحسب معرفة المتابعين لجهودها فى هذا المجال، وقد جالستها عدة مرات بالمصادفة فى صحبة صديقى الروائى الراحل مكاوى سعيد الذى كان يتبادل معها دائما أحاديث شيقة عن القاهرة وخباياها.
ولا أظن أننى قرأت خلال الفترة الأخيرة كتابا مترجما عن بحث أكاديمى أثار اهتمامى كما فعل هذا الكتاب المكتوب بحساسية فنية عالية ويختلف تماما عن الكتب الأكاديمية المعتادة، وتعتمد مؤلفته على نمط من السرد التاريخى يندر أن تجد له مثالا فى كتابات مؤرخينا التى تتسم بضعف فى هذا المجال، وتصر على بناء النصوص بعد تركيب عدة فقرات منقولة من المراجع المختلفة، ولا تعتنى بما يمكن تسميته بالصهر أو التركيب والسبك لبناء نسيج متماسك.
لعل واحدة من مميزات الكتاب أنه يحقق هذا الهدف بقوة ويقارب كثيرا مناهج دراسات النقد الثقافى والدراسات البينية التى انطلقت أول ما انطلقت من حلقة جامعة برمنجهام التى جاءت منها المؤلفة، وتتلمذت فيها على يد أستاذ متميز هو والتر رمبراست مؤلف الكتاب الشهير «الثقافة الجماهيرية والحداثة»، وصاحب الأبحاث والدراسات التى رافقت ظواهر واكبت ثورة 25 يناير مثل رمزية الشهيدة سالى زهران أو حضور الإعلامى توفيق عكاشة.
ويبدو واضحا أمام القارئ أن المؤلفة استوعبت تلك المناهج تماما وأصبحت قادرة على تقديم سردية تاريخية مهمة تعتمد على مقاربات نظريات ما بعد الاستعمار كما تلجأ لأرشيفات غير تقليدية تكافح بها الرؤى النظرية المورثة من المدارس التقليدية لكتابة التاريخ والتى تقوم على الأرشيفات الرسمية وتستعمل فى عملها ما تسميه بـ«التاريخ من الوسط» الذى يجمل بين الرسمى المكرس والتاريخ الهامشى المهمل.
كما قاومت استعمال مصطلح «التاريخ من أسفل»، وابتكرت مصطلحا فريدا لأهمية وعيها بالأرشيف الصحفى وكل مواد الأرشيفات التى تفرزها الحياة اليومية وتسميه «أرشيف سور الأزبكية» فى إشارة للسور الشهير الذى تمت إهانته واستبعاده تماما من ذاكرة المدينة بعد أن حوصر بجيوش من الباعة الجائلين.
تتابع لوسى مسارات التمايز الطبقى فى مصر الحديثة من نهاية القرن الـ 19وترصد مراحل نمو طبقة البورجوازية المصرية ومراحل تحررها من التبعية للاستعمار ومساعيها للاستقلال، وتظهر بجلاء دور الأفندية فى ثورة 1919
اعتمادا على مصادر متعددة يحتفظ فيها الأدب بمكانة مرموقة، إذ تعود المؤلفة لنصوص راسخة ليحيى حقى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم تعبر عن حضور (الأفندى) فى الوجدان قبل أن يأتى الضباط الأحرار فى يوليو 1952 ويغيرون الدفة لصالح فئات جديدة من المتعلمين جاءت مع اتساع قاعدة التعليم الجامعى ذلك على الرغم من كون الناصرية التى جاءت فيما بعد تمثل تتويجا وإكمالا لثقافة الأفندية.
ينظر الكتاب إلى الأفندية بوصفهم «ممرات مصر إلى الحداثة» ويتعامل مع الأفندى على أنه مواطن حديث بغض النظر عن درجة التعليم التى حصدها أو نوعه، إنه المحاولة التوفيقية الناجحة بين ما تمثله الأصالة وما تطمح إليه الحداثة لصياغة نمط المواطن الذى يمثل الفرد الحديث صاحب المهمة الرسولية التبشيرية التى تستهدف إنقاذ الشعب المحاصر بثلاثية الفقر والجهل والمرض، وبالتالى فإن أعظم أهدافه هى ترقية الفرد اجتماعيا.
شخصيا أتمنى لو أن رئيس الوزراء وجد وقتا لقراءة الكتاب حتى يدرك ضرورة بناء سياسات تعليمية تستأنف هذا الدور لأننا لم ننجز إلى الآن مهمة الحداثة أو التحديث ولم يعد لدينا الطالب الذى يجرى تأهيله ليصبح مثل الأفندية الذين يصفهم الكتاب كفاعلين رئيسيين فى بناء الوطنية المصرية، وصناعة السياسة العامة.
فى الماضى كان السعى إلى التعليم تمرينا للتغلب على الحواجز الاجتماعية والمادية واستعمل دائما كمدخل للترقى الطبقى، فى حين أصبح اليوم مدخلا لإرهاق الأسر، وكأننا عدنا إلى عهد ما قبل مجانية التعليم ومن المؤسف جدا أن السياسات التعليمية الجديدة والمناهج أصبحت أقرب إلى احتقار هذا الطموح، بعد أن فقدت المدارس قيمتها ولم تعد كما كانت فى الماضى فالتعليم يجرى تدميره بحجة تخفيف الأحمال بمناهج لا قيمة لها ولا معنى.