عملات خرجت إلى التقاعد (1)
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 7:08 م
بتوقيت القاهرة
أشياء عديدة كثيرة تغيرت فى مصر المحروسة، بل وخرج التصميم التصويرى لبعضها إلى التقاعد ومن بينها العملات النقدية، لا سيما ورقة نصف الجنيه وورقة العشرة جنيهات.
ورقة النصف جنيه
كانت ورقة نصف الجنيه تحمل للبسطاء من الناس فى بلادنا صفات ذلك الرجل الحاسم الواقف بملامح دقيقة شابة قابضا على مقاليد الأمور بصولجان القرار الذى يضمه إلى صدره.
لا توجد أية معلومة على الورقة عن هذا الشاب دقيق الملامح. قبل ثلاثة أو أربعة عقود لم يكن أحد يعرف عنه شيئا، ربما باستثناء مصمم العملة ورئيس البنك المركزى وحفنة من علماء الآثار.
مع انتشار المعرفة اليوم، صرنا نعرف أن الصورة لتمثال فريد عجيب لا نظير له فى الأراضى المصرية وهو للملك «رمسيس الثانى» فى مرحلة من شبابه يضع على رأسه خوذة للحرب بدلا من تاج الملكية المدنى، ويمسك صولجانا يؤدى عدة وظائف منها الاستعداد ليضرب بيد من حديد المخالفين والأعداء.
تخفى ورقة نصف الجنيه بقية جسم التمثال الذى يعد أعجوبة من أعاجيب الفن المصرى القديم، ففيه يجلس رمسيس الثانى على كرس الحكم بهيئة بالغة الإتقان وتجليات فنية عجيبة.
الصخر المنحوت فيه التمثال متفرد أيضا، تتميز به أرض مصر عن كثير من بلاد العالم، يسميه الجيولوجيون «الجرانوديورايت» وهى كلمة مؤلفة من شقين يجمع فيها الصخر بعض صفات الـ«جرانيت» مع بعض من صفات الـ«ديورايت».
رمسيس الثانى الذى حكم قبل 3200 سنة مضت اختار أحد أقدم صخور القشرة الأرضية فى مصر، صحيح أن الفنانين فى عهده كانوا يعرفون أن الصخر قديم جدا لكنهم قطعا لم يتخيلوا ما يقوله علماء التأريخ اليوم من أن متوسط عمر تكوين هذا الصخر فى أرض مصر يقرب من 800 مليون سنة!.
بعد أكثر من ألف سنة من عهد رمسيس الثانى، حينما احتل الرومان مصر وضعوا أيديهم على ما هو أغلى من الذهب، كان صخر الجرانيت الديورايتى فريدا لا نظير له فى كل مستعمرات روما فى أوروبا وآسيا، ومن ثم اتخذوه مصدرا مثاليا لصناعة أعمدة القصور الملكية فى روما، وجند الرومان المصريين لقطع صخر الجرانودايوريت وسحبه من عمق صحراء مصر الشرقية إلى قنا على النيل ومن قنا عبر النهر إلى الإسكندرية ومن الأخيرة إلى روما حيث توجد إلى اليوم أزهى وأجمل الساحات والقصور من ذلك العهد.
من بين المناجم التى خلبت خيال أباطرة روما جبل شهير فى صحراء مصر الشرقية إلى الغرب من ميناء سفاجا اليوم اهتم به إمبراطور رومانى كبير هو الإمبراطور «كلاوديوس» الذى أطلق اسمه على الجبل الذى يضم أنواعا من الجرانيت ومن بينها الجرانوديورايت فأسماه «مونس كلاوديانوس» أى «جبل الإمبراطور كلاوديوس» الذى ما زال اسمه على الخرائط المصرية إلى يومنا هذا.
ومن عجائب هذا الصخر الجرانيتى الديورايتى أيضا انه هو نفسه الذى قطع منه حجر رشيد الذى كان مفتاح فك رموز اللغة المصرية القديمة.
ولأن بلدنا العظيم وطن المفارقات والمفاجآت والتناقضات، فإنك إذا بحثت عن تمثال رمسيس الثانى الذى تراه هنا على ورقة نصف الجنيه فستجده فى «المتحف المصرى».
قد لا تنتبه إلى الخدعة لأن المتحف المصرى المقصود ليس متحف القاهرة، بل المتحف المصرى فى تورينو بإيطاليا الذى أسميه على سبيل السخرية «مغارة على بابا الذهبية» ففيه آلاف القطع المصرية المنهوبة والمسروقة التى وجدت طريقها إلى إيطاليا منذ عهد محمد على باشا الذى لم يكن يعط أية اهتمام للآثار ولا يعتنى بها بل سمح لـ «برناردينو دروفيتى» القنصل الفرنسى ذى الأصل الإيطالى والمحترف الكبير فى نهب الآثار بنقل آلاف القطع التى تزين ثلاثة متاحف فى أوروبا الآن، أكبرها وأضخمها وأعظمها «المتحف المصرى» فى تورين.
حين تم تصميم ورقة نصف الجنيه وكان لها هيبتها كانت تعويضا على ما يبدو عن غياب التمثال الأصلى فى تورين فى إيطاليا. الآن غاب الاثنان: التمثال الحقيقى، ونفحة من صورته.. أو لمحة من هيئته.
ورقة العشرة جنيهات
يقولون إن ورقة العشرة جنيهات تطير بسرعة البرق حتى إننا لا نلحق رؤية ما عليها أو فهم دلالة صورها.
لورقة العشرة جنيهات وجهان: إسلامى مكتوب بالعربية وعليه صورة مسجد قاهرى شهير، والوجه الآخر الذى نراه فى هذا المقال مكتوب بالإنجليزية وعليه صورة تمثال أحد أشهر ملوك مصر القديمة وصاحب الهرم الثانى والذى حكم بلادنا قبل 4500 سنة مضت فى الأسرة الرابعة: الملك «خفرع».
للتمثال الموجود حاليا فى المتحف المصرى تصميم فريد إذ نجد فيه المعبود حورس صقرا يحيط برأس خفرع من الخلف، يوجه خطاه بكل حزم وتصميم وكأنه يقود مسيرته فى تجسيد مباشر لسلطة السماء (الرب) وسلطة الأرض (الحاكم).
تمثال خفرع الشهير منحوت فى صخر نارى انبثق من صهير اللهيب من باطن الأرض، اختلف الجيولوجيون فى تحليل عناصره ما بين «الديورايت» و«النايس».
الأمر غريب حقا، خفرع ملك مصر فى بواكير الأسرات الأولى أى مهد الدولة المصرية القديمة، وهذه الصخور هى الأقدم عمرا فى الأراضى المصرية، فالديورايت يقدر عمره ما بين 800 و900 مليون سنة مضت، أما صخور النايس gneiss فهى الأقدم فى الأراضى المصرية، ويذهب العلماء إلى أن هذه الصخور ظهرت فى أرض مصر مع بداية تشكيل القشرة الأرضية فى بلادنا، بل تشكيل القشرة الأرضية فى كل عموم إفريقيا، والرقم المطروح يصعب تخيله لغير المتخصصين إذ يعود عمر هذه الصخور إلى 1700 مليون سنة فى الحد الأدنى.
الأمر الغريب الثانى فى صخور النايس أنها لا تنتشر فى كل مكان فى مصر، بل توجد فى مناطق نفوذ بعينها وفى خطوط عرض الجنوب المصرى دون سواه.
خفرع الذى بنى الهرم الثانى فى الجيزة ومعه على الأرجح أبو الهول لم يكن لديه أية صخور ديورايت أو نايس فى محيط الشمال المصرى الغارق فى الصخور الجيرية والرملية والطفلية الهشة. من أين أتى بهذا الصخر الفريد؟
ذهب الجيولوجيون والجغرافيون المصريون قبل 4500 سنة إلى خرائطهم الجيولوجية ليعثروا على جبل نادر فى إقليم بلاد النوبة فى منطقة تقع اليوم إلى الغرب من أبو سمبل، وتعرف اصطلاحا باسم «جبل العصر».
فى تلك المنطقة فى أقصى الجنوب المصرى اقتطع النحاتون صخورا ضخمة أقاموا منها العديد من التماثيل لخفرع ومنها التمثال الذى يظهر على ورقة العشرة جنيهات.
الدهشة الثالثة التى تنتابك هى أن أكابر علماء الجيولوجيا البنيوية فى العالم اليوم يعتقدون أن أرض مصر نمت فوق مجموعة من الأقواس البنيوية التى كانت أشبه بالعمود الفقرى الذى تجمع حوله بقية «اللحم والدهن» للأراضى المصرية، ومن بين هذه الأقواس البنيوية فى عمود مصر الفقرى قوس شهير أعطوه اسم Chephren وهى الكلمة الإنجليزية لاسم «خفرع» ويقصدون بها المنطقة التى تم منها اقتلاع صخور تماثيله فى غرب بلاد النوبة.
تخيل أنه كان بوسعنا أن نعرف كل هذه المعلومات، لو كانت ورقة العشرة جنيهات تتمهل قليلا، كيف تتمهل، وقد غابت تماما عن الأنظار منذ العام الماضى.