نخبة القاهرة واستبداد الدولة
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الجمعة 27 سبتمبر 2013 - 8:55 ص
بتوقيت القاهرة
يدافع منظرو الماضى عن جهود بناء استبداد جديد فى صيغة عصرية عن طريق توظيف خاطئ لمسلمات على شاكلة ضرورة «الحفاظ على الدولة» وضرورة احترام «هيبة الدولة». ويبرر البعض من منظرى ذلك الماضى، الذى تثور عليه جموع الشعب المصرى منذ 25 يناير 2011، الانتهاكات المستمرة لأبسط حقوق الإنسان كالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية على يد أجهزة الدولة.
ما يدافع عنه منظرو الماضى فى جوهره هو استمرار ظلم نخبة القاهرة لبقية سكان مصر. وتسيطر نخبة العاصمة على قمة الجهاز البيروقراطى للدولة المصرية، وهى فعليا تحكم مصر عن طريق مساندتها غير المحدودة لأنظمة الحكم الاستبدادية التى شهدتها مصر منذ تأسيس جمهورية 1952. نخبة القاهرة تلك تسكن أحياء معدودة فى العاصمة تمتلك معظم أراضى مصر من غرب الإسكندرية وحتى الحدود الليبية، أو ما يعرف بالساحل الشمالى، وهى نفس النخبة التى تمتلك الأراضى والمنتجعات على شواطئ البحر الأحمر، وهى نفس النخبة التى تسيطر على منطقة تونس على ضفاف بحيرة قارون فى محافظة الفيوم الفقيرة.
تستطيع نخبة القاهرة بنفوذها وفسادها أن تمد خطوط المياه الصالحة للشرب وخطوط الكهرباء وشبكات الصرف الصحى لمنتجعاتهم التى يزورونها عدة مرات سنويا، فى الوقت الذى يتجاهلون فيه بقاء عدة ملايين من المصريين بلا مياه صالحة للشرب ولا كهرباء ولا صرف صحى فى قراهم ونجوعهم.
•••
نخبة القاهرة ليست نخبة ثقافية أو فكرية بمعايير النخب المقارنة، بل نخبة طفيلية استهلاكية، لم تكن لديها نية ولا مقدرة على قيادة المجتمع كله للأمام. وتثير علاقة نخبة القاهرة بالغرب الكثير من الاشمئزاز والشفقة معا، ومن المخزى أن نخبة القاهرة لا تشبه النخب الأوروبية أو الأمريكية فى شىء، ينظرون للغرب بانبهار ويقدسون نمط حياتهم وفنونهم وتكنولوجيتهم، إلا أن نخبة القاهرة تختار تجاهل القيم المجتمعية التى أدت لقوة وتطور الغرب مثل المساواة والحرية واللا مركزية.
أوجدت هذه النخبة مدارس ومستشفيات ووسائل انتقال بديلة عما توفره الدولة لبقية أبناء مصر. وتتنافس هذه النخبة على اللحاق بآخر ما أخرجته بيوت الأزياء الايطالية، ومحال العطور الفرنسية، وتتباهى بما تركبه من سيارات ألمانية، ويتفاخرون بتناولهم الطعام الأمريكى. إلا أن أكثر نمط الاستهلاك خطورة وتدنيا فى الوقت نفسه هو ما يفعلونه مع تعليم أولادهم. سباق محموم على إدخالهم مدارس بريطانية وفرنسية وأمريكية، وكأنهم فى مزاد تسويقى. لا يدركون خطورة التنافس على الدخول لمدارس أجنبية على مستقبل هذا الشعب وهويته ومنظومة القيم الثقافية الحاكمة له. وعلى الرغم من عشق النخبة للدولة، نجدهم لا يأخذون أبناءهم لمدارس تلك الدولة ولا لمستشفيات تلك الدولة. ولا يعرف أبناء هذه النخبة حال وسائل مواصلات الدولة لأنهم ببساطة لن يركبوها طوال حياتهم.
•••
طبقا لمختلف التصنيفات المتخصصة تعد مصر «دولة متخلفة»، إذ تقع جامعات ومدارس ومستشفيات مصر فى ذيل قوائم الترتيب العالمى. ووصل الهبوط لدرجة تقدم دول عربية غير نفطية مثل الأردن وتونس والمغرب على مصر فى مؤشرات جودة التعليم وجودة الصحة العامة. وأشار تقرير التنافسية العالمى، صدر الشهر الماضى عن المنتدى الاقتصادى العالمى، إلى أن مصر احتلت المرتبة الأخيرة بين الدول فى جودة التعليم الأساسى بحصولها على الترتيب الـ 148 من بين 148 دولة. كما حصلت مصر على ترتيب مرتفع للغاية فى «إهدار المصروفات الحكومية» 135 من بين 148 دولة.
ورغم أن الاتجاه الحتمى فى تطور إدارة الدولة الحديثة يتجه نحو الحد من المركزية والتوسع فى تطبيق اللا مركزية، حيث يقتصر دور حكومة العاصمة فى هذه الحالة على الشئون السيادية مثل الدفاع والسياسة الخارجية وإدارة الاقتصاد القومى. نجد نخبة القاهرة تتمسك بضرورة إحكام سيطرتها المباشرة على بقية شئون مصر، حيث تصبح الدولة المركزية أداتهم للهيمنة، وتصبح العاصمة هى المتحكمة فى مصير محافظات مصر. وقطعا ترفض نخبة القاهرة أى أفكار جريئة تطالب بنقل العاصمة لإحدى مدن الصعيد. تكره هذه النخبة كل ما يتعلق باللا مركزية التى تمثل صفة إيجابية بالضرورة بحكم طبيعتها، فهى تعكس عدم تركيز السلطة وتوزيعها بين المستويات الإدارية والجغرافية المختلفة على مستوى الدولة بعيدا عن دائرة القاهرة الضيقة.
•••
تحافظ نخبة القاهرة على سياسات تولد وتحافظ على الفقر من خلال السياسات التعليمية والصحية وعلاقات العمل. وهى طبقة حاكمة ليست بحاجة إلى دعم وتأييد شعبى لأنها تصل للحكم من خلال شبكة علاقات فاسدة تبعد عن الشفافية والمحاسبة. ارتضت نخبة القاهرة بالاستبداد سبيلا للحفاظ على مكتسباتها وتميزها. ولهذا السبب تحديدا ترفض وتصارع من أجل بقاء الاستبداد، بمعنى أن هذه النخبة لا تصلح أن تكون «نخبة» إلا فى ظل المعايير التى يحميها نظام استبدادى. النخب فى الدول المتقدمة هى أولى عربات قطار طويل، تقوده هى وترتبط به. ويكون تطورها وتقدمها مرتبطا بالضرورة بجذب ودفع بقية المجتمع للأمام أيضا. لذا فإن حقيقة موقف نحبة القاهرة من تجربة الانتخابات الحرة لم يكن موقف دفاع عن هوية الدولة كما يزعمون أو التصدى لسيطرة فريق سياسى على مقدرات الدولة. بل هو موقف دفاع عن وجود مهنى أو (دور وظيفى)، وما يترتب على هذا الوجود من مكتسبات ومصالح.
نخبة القاهرة خدمت النظام السابق وتسلمت وظائف تنفيذية وقضائية وتشريعية عليا فى الحكومة بناء على درجة ولائهم لرأس النظام. ولم تشكل الأمراض المصرية المستعصية قلقا حقيقيا لهم، فهم تجاهلوا على سبيل المثال بقاء نحو 23 مليون مواطن مصرى لا يقدرون على القراءة والكتابة، ووصول عدد مرضى التهاب الكبد الوبائى إلى 12 مليون مصرى، ومرضى السكر إلى 14 مليون مصرى.
لم تقم ثورة 25 يناير فقط لإسقاط الرئيس السابق حسنى مبارك، بل هدفت للتغيير. تغيير أنماط التفكير والسلوك فى المجتمع عموما، إلا أن التغيير الأهم هو استبدال نخبة القاهرة بنخبة من خارج العاصمة.
لا أمل فى مصر حرة متقدمة طالما ظلت نخبة القاهرة الطفيلية جاثمة على مقدرات المصريين فى بقية أرجاء مصر.