على حدود المدنى والعسكرى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 27 أكتوبر 2011 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

حديث المجتمع المصرى هذه الأيام، ومنذ فترة، حديث عن الجيش، وهو أيضا حديث المجتمع فى سوريا وتونس وليبيا واليمن والعراق ولبنان والسودان. ولعله فى الوقت نفسه حديث مجتمعات عربية أخرى، مثل مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجى. يذكر بعضنا أعوام نهاية عقد الأربعينيات ومعظم أعوام عقد الخمسينيات عندما كانت الجيوش حديث المجتمعات فى الدول حديثة الاستقلال. وسواء كنا من بين الذين يذكرون تلك الأيام بالخير، أو كنا من بين من لا يريدون تذكرها، فنحن نشترك فى الاقتناع بأن حياة شعوبنا تأثرت أيما تأثير خاصة أن بعضا من هذه الشعوب والمصريين فى صدارتها عاشوا فى ظل الحكم العسكرى طيلة ستين عاما أو ما يزيد قليلا كحالة الشعب السورى أو يقل كثيرا كحالة الشعب التونسى. فى كل الأحوال وفى كل البلاد التى خضعت لحكم عسكرى مباشر أو غير مباشر ما زالت الآثار واضحة فى السلوك اليومى للمواطنين وواضحة فى استعداداتهم للدخول فى مخاطرة اسمها الديمقراطية.

 

●●●

 

يدفعنى إلى الكتابة الآن فى موضوع الجيوش العربية أكثر من دافع. أول هذه الدوافع هو أن سيرة الجيوش وأدوارها فى مجتمعاتها عادت تهيمن على أحاديث السياسة، وثانيها أن كل شعوب المنطقة، وأكاد أقول بدون استثناء، منشغلة وبعضها للمرة الأولى، بالتفكير فى مستقبلها وسط أعاصير شتى أحدها يهدد أمن واستقرار النظام الرأسمالى العالمى وبخاصة اقتصادات الدول الغربية العظمى. ثم هناك إعصار محلى أو إقليمى أثارته بؤر غضب شديد نتيجة الإحباطات المتعاقبة لشعوب المنطقة والانحدار المتسارع للأمة فى مجمل أنحائها وشتاتها والتوقعات المتزايدة بأن التحولات قادمة لا شك فيها. من الطبيعى فى ظل هذا الإحساس بالخطر أن يذهب تفكير النخب السياسية أول ما يذهب إلى المؤسسة العسكرية ليس فقط لأن الأنظمة تحكم تحت حراستها ورعايتها ولكن أيضا لأنه لم يعد يصدر عنها ما يشى بعدم رضاها أو بتعاطفها مع الشعوب وتفهمها لأسباب غضبها الذى لم يكن خافيا.

 

●●●

 

ثالث الدوافع مقال قرأته فى صحيفة الحياة اللندنية قبل حوالى أسبوع ( 20 أكتوبر) تحت عنوان «علاقات الجيوش بالسياسة فى ظل الربيع العربى». يؤكد المقال على ما نذهب إليه من أن الاهتمام بالجيوش وأدوارها فى المرحلة الحالية والمقبلة شاغل من أهم شواغلنا، شعوبا كنا أم مفكرين أم سياسيين أم رجال مال وأعمال أم رجال دين.

 

كتب شفيق ناظم الغبرا، الكاتب الكويتى المرموق والمتخصص فى العلوم السياسية، ملاحظا وعن حق الاختلاف الكبير بين أدوار الجيوش فى الدول التى نشبت فيها ثورات ضد السلطة «الشرعية» القائمة. يقول إنه فى حالتين «انقلب الجيش على النظام القديم فى لحظة تاريخية وساهم فى إنقاذ كل من تونس ومصر من مجزرة وكارثة وطنية»، وهى ملاحظة جديرة بالاهتمام لأن تيارا فى مصر يضم بعض القادة فى المجلس العسكرى الحاكم يرددها ويروج لها، بينما أتصور أن تيارات أخرى تعترض على هذا الصياغة لدور الجيش خلال الأيام الأولى للثورة. اعتراض هذا التيار الذى يضم بدوره بعض العسكريين ينصب، على استخدام كلمة «انقلبت»، وهى الكلمة المكروهة فى القاموس العسكرى المصرى الحديث باعتبار أنها تقلل من المفهوم الحضارى الذى تحاول المؤسسة العسكرية المصرية تأكيده فى أذهان دول الغرب وبين أفراد النخب السياسية المصرية. الأمر نفسه ينطبق على الجيش التونسى، فالجيشان يرفضان التلميح أو التصريح بأنهما انقلبا على الشرعية. ما حدث حسب ما يصرون عليه هو أنهما تحولا فى اتجاه «الشرعية الثورية» وأعلنا تأييدهما «مطالب الثوار المشروعة»، ولكن أيا منهما لم تتخذ أى إجراءات يفهم منها أو يثبت انضمامها كمؤسسة إلى فكر الثورة والاحتشاد فى صفوفها.

 

●●●

 

على الناحية الأخرى يقف الجيشان اليمنى والسورى فى صف النظام الحاكم. وفى سوريا بخاصة يقاتل الشعب السورى وحيدا ضد النظام والجيش. أما فى ليبيا فلم يكن هناك فى الحقيقة مؤسسة عسكرية بالمعنى المتعارف عليه منذ أن تعرض الجيش لما تعرضت له بقية مؤسسات ليبيا من تفكيك فى ظل النظام الجماهيرى الذى ابتدعه معمر القذافى حين اقتنع عن غير فهم أو دراسة بتجربة الثورة الثقافية التى أطلقها ماو تسى تونج فى محاولة لإعادة هيكلة منظومة القيم والسياسة فى الصين.

 

●●●

 

يشرح الغبرا الاختلاف فى أدوار الجيوش خلال الثورات فيقول إنه راجع إلى الاختلاف فى طبيعة النظام والمجتمع، «ففى المجتمعين المصرى والتونسى الأكثر تجانسا، وبحكم تكون الطبقة العاملة والاتحادات والمجتمعات المدنية كان من الصعب زج الجيش فى الحرب ضد الشعب. أما الجيش السورى فكان قد تعرض لتحولات كثيرة من أهمها تسييسه «وهدم روحه الاحترافية» فى ظل حكم البعث فضلا عن أنه أصبح ملاذا للطائفة العلوية، وفى النهاية صار أكثر ارتباطا بعائلة الرئيس الأسد. وللحق أعتقد أن الجيش السورى لم تكن بين خصائصه «الروح الاحترافية» التى يشير اليها الأستاذ الغبرا، فالجيش السورى أنشأه المستعمر الفرنسى نشأة سياسية حين ركز عمليات التجنيد على أبناء الطائفة العلوية. كذلك تسيس جيش العراق فى ظل صدام وكلاهما، العراقى والسورى، جيشان عاشا خائفين من الزعيم الأوحد، والجيوش الخائفة كما نعرف تتحول إلى اعتناق حالة من الكراهية لفئات وتيارات فى المجتمع تعوض بكراهيتها لها عن ضعفها وتخفى خوفها.

 

●●●

 

أتصور أن الزميل الكويتى يتفق مع رأيى فى أن كل جيوش العرب تواجه الآن تحديات ضخمة تتعلق بمستقبل دورها فى مجتمعاتها. يعرف المتخصصون أن أهم تطور لحق بالمؤسسات العسكرية العربية خلال السنوات الأخيرة حدث حين تعرضت للتهميش. وقع التهميش لأسباب متعددة أهمها عدم وجود تهديد خارجى حقيقى أو عاجل، جيوش لم تعهد الخطر الخارجى منذ قيام الدولة كالجيش التونسى وجيوش عهدت التهديد الخارجى ثم أوحى اليها أن التهديد زال أو لم يعد يمثل خطرا داهما كالخطر الذى يمثله التهديد القادم تحت عنوان الإرهاب، وبين الأسباب أن الجيوش كل صارت تخضع للنفوذ المتزايد من جانب أجهزة مخابرات الشرطة والأمن القومى، وخاصة بعد أن أصبحت هذه الأجهزة تشكل حلقات مندمجة فى تشكيلات استخبارات دولية شديدة التعقيد، إلى جانب هذه الأسباب يسود اعتقاد بأن وراء التهميش يقف كسبب مهم سخاء معظم الأنظمة الحاكمة عند تلبية «المطالب المشروعة» للقوات المسلحة، وهو الأمر الذى يبدو أكثر وضوحا فى دول الخليج.

 

●●●

 

ومع ذلك، ورغم أهمية هذه العوامل التى شاركت فى تغيير أهم ملامح المؤسسات العسكرية العربية فى السنوات الأخيرة، إلا أننا يجب أن نراعى أن التحولات الأكبر على صعيد العولمة وفرض سياسات توافق واشنطن واقتصاد السوق والتحول الذى منح القطاع الخاص خاصة فى مجال المال أهمية عظمى فى عمليات التنمية الاقتصادية والمجتمعية، هذه التحولات أجبرت المؤسسات العسكرية على الانسحاب من أداء الدور الذى حملته على أكتافها فور الحصول على الاستقلال وبداية مرحلة بناء الدولة وعندما تعهدت بأن تكون القاطرة التى تجر قطار التنمية فى مجتمعات تخلو من مؤسسات منظمة وحديثة ومنضبطة. المؤكد الآن أن المؤسسات العسكرية حتى فى دول الغرب لم تعد تقود الثورة التكنولوجية أو تسعى لدى السلطة المدنية لتعميق دور العلم والتكنولوجيا فى برامج التعليم ولم تعد تقود فى مجالات الاتصالات وصناعة السلاح. توقفت عن تعظيم دور العلم والعلماء وتراخت فى تشجيع مراكز البحث وعن تقديم الخبرات التنظيمية لمؤسسات الدولة والمجتمع، تركتها جميعا أو أغلبها للشركات متعددة الجنسيات أو الحكومات الغربية التى تقدم المنح وتحدد أولويات الانتاج والاستثمار فى الدول العربية. فى كل الأحوال، وفى كل الجيوش، لم تمنع هذه التحولات من أن تباشر جيوش، أو قطاعات فيها، مهام تجارية واقتصادية بهدف زيادة ميزانياتها المخصصة للخدمات.

 

تراجع الدور التحديثى الذى سبق أن قامت به بنجاح مبهر المؤسسات العسكرية فى مرحلة بناء الدولة، خاصة بعد أن تعددت قوى التحديث فى كل المجتمعات، أو بعد أن أصبح التحديث مرهونا برغبة البيروقراطية الحاكمة فى استيراد الحداثة وقدرتها على التحكم فى سرعتها وانتشارها فى المجتمع، هذا كله بالإضافة إلى الاتجاه العام فى معظم دول المنطقة العربية لسحب السياسة من تحت أقدام العسكريين وتفادى إقحامهم فى شئون المجتمع والحكم المباشر تحت أى صورة، وهو الأمر الذى ساهمت فيه إلى حدود قصوى سلطة الأمن الداخلى وأجهزة المباحث والاستخبارات التابعة لأعلى أجهزة الحكم. حدث هذا وأكثر منه بينما يستمر الحاكم الفرد أو الحزب الأوحد فى الإيحاء دوما بأن الجيش يبارك السلطة الاستبدادية القائمة ويدعمها ويبارك خطواتها.

 

●●●

 

أمور كثيرة ستدفع نحو تغيير العلاقة بين المدنى والعسكرى فى معظم الدول العربية. حدثت ثورات، والثورات بحكم التعريف نقيض الانضباط وإطاعة الأوامر واحترام التسلسل الوظيفى، وهى أيضا نقيض الترتيب التقليدى لأولويات الحكم. وقعت ثورات وتغيرت أسس علاقات خارجية ونشأت بؤر تهديد جديدة فى الخارج. وقعت ثورات، وتغيرت قواعد علاقات داخلية بين قوى المجتمع وتيارات وطبقاته. هذه التغييرات وغيرها تستدعى منا التفكير الهادئ وعلى أساس نفس طويل وصبر هائل، لصنع «عقد اجتماعى صغير» يضع قواعد وأخلاقيات جديدة تنظم العلاقة بين المدنى والعسكرى فى مصر التى نريدها ديمقراطية ومتحضرة وناهضة.. ومدنية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved