حال جامعاتنا ومراكزنا البحثية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 27 أكتوبر 2019 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
أشعر بالحزن العميق لما آل إليه حال جامعاتنا ومراكزنا البحثية، وأظن، أن كثيرين من العارفين بهذه الأحوال يشاركوننى هذا الشعور، والذى لا تخفى على أحد أسبابه، صحيح أن بعض جامعاتنا يحقق مراكز أفضل من السابق فى التصنيفات الدولية، ولكن حتى هذه المراكز التى تحتلها، وأفضلها قد يرد فى قائمة أفضل خمسمائة جامعة فى العالم بناء على معايير بعض هذه التصنيفات، مثل تصنيف مجلة تايمز البريطانية، وتتراوح وفقا له مواقع بعض هذه الجامعات العامة بين ٤٠٠ ــ٦٠٠ على مستوى العالم من حيث إنتاجها البحثى وكثرة الاستشهادات بأبحاثها، وهى مواقع تتدنى بكثير عن مواقع جامعات الصين أو الدول الصناعية الجديدة مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والتى تصعد إلى مراتب أكثر تقدما بين الثلاثين أو المائة الأفضل، أو بعض الجامعات الإسرائيلية التى تحتل مواقع بين المائتى جامعة الأفضل. ولكن أسباب الحزن تتعدى ذلك، وتعود إلى المقارنة بالدور الذى قامت به الجامعات العامة فى مصر فى الماضى القريب، والمكانة التى كانت تتمتع بها فى المجتمع، ومدى فاعلية الحماية التى يضفيها عليها الدستور، والمثل الذى تضربه للمصريين جميعا كمؤسسات تفتح الباب أمام التخفيف من حدة عدم المساواة بإفساح السبيل للترقى الاجتماعى لخريجيها عموما وللنابغين من طلابها على وجه الخصوص.
***
فلنتأمل أعزائى القراء والقارئات الدور الذى لعبته الجامعات المصرية فى الماضى كمنارة للإشعاع الفكرى فى العالم العربى ككل، وفى قيادته على طريق الاستنارة. من ينكر أن طه حسين الذى كان عميدا لكلية الآداب جامعة القاهرة هو واحد من أبرز رموز الاستنارة على صعيد العالم الإسلامى، وأن مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم كان من أوائل من طرقوا باب الأبحاث النووية فى بلاد العرب، وهل هناك من ينكر المكانة الدولية للدكتور عبدالفتاح القصاص فى علوم البيئة والصحراء، وغيرهم كثيرون. لم تقتصر المساهمات الفكرية البارزة على من شغلوا وظائف التدريس فى الجامعات المصرية وإنما كان لخريجى هذه الجامعات صيت بارز. منهم مثلا عبدالرزاق السنهورى رائد التحديث القانونى ليس فى مصر وحدها وإنما فى العديد من الدول العربية، ومنهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. لا أشير إلى أى منهم مسبوقا بكلمة مرحوم لأن سجلهم حاضر بيننا على الرغم من أن عقودا مضت على رحيلهم. أعرف أن كل من ذكرتهم هم من خريجى جامعة القاهرة ليس تعصبا منى للجامعة التى أقوم بالتدريس فيها، ولكن لأنها كانت الأقدم عهدا بين كل الجامعات الحكومية فى مصر. لا أعرف أحدا من بين خريجى كل الجامعات العامة والخاصة فى مصر من يرتفع إلى مستوى أى من هؤلاء الرواد، وإن كنت أسعد إذا ظهر من له مثل نبوغهم.
طبعا قد يرى البعض أنه كانت هناك ظروف خاصة شجعت على ظهور مثل هؤلاء الرواد، وهى أنهم ربما كانوا من الأجيال الأولى التى تلقت العلم الحديث فى مؤسسة جامعية مصرية، ومن ثم كانوا يشقون طريقا جديدا أمام وطنهم والشعوب العربية والإسلامية التى تشابهت ظروفها فى السعى للاستقلال الوطنى مثل مصر، وكان على من تبعوهم أن يسيروا على نفس الطريق. ومن ناحية أخرى فقد اتسع محيط المعرفة الإنسانية، وأصبح ظهور مثل هؤلاء المفكرين شبه الموسوعيين أمرا نادرا ليس فى مصر وحدها ولكن حتى فى الدول المتقدمة ذاتها، ولكن تدهور مكانة الجامعة العامة فى بلادنا لا تعود فقط إلى ندرة الرواد من بين أساتذتها وخريجيها، ولكنها تعود إلى أمور أخرى مثل مكانة مهنة التدريس الجامعى فى المجتمع، وانهيار استقلال المؤسسة الجامعية والبحثية، وعجزها عن أن تكون سلاح الطبقات العاملة فى كسر حدة التفاوت بين أبنائها وبناتها ومن قيض لهم أن ينشأوا فى طبقات موسرة. واهتمامى بالجامعات العامة مصدره أنها تضم بين صفوفها ثلاثة أرباع الطلاب الجامعيين، فلا يذهب إلى الجامعات الخاصة سوى ٥.١٪ من الطلاب على هذا المستوى، وتستوعب المعاهد الخاصة ١٣.٦٪ منهم. كما أن الجامعات العامة هى المصدر الرئيسى لأعضاء هيئات التدريس فى الجامعات والمعاهد الخاصة التى تعتمد على الانتداب الكلى أو الجزئى من الجامعات العامة.
***
لم يعد التدريس فى الجامعة سواء الحكومية أو الخاصة أمرا يجتذب الطامحين والنابغين من الخريجين. وضع الجامعات الحكومية معروف. دخل الأستاذ الجامعى، وأغلب الأساتذة لا مصدر لدخلهم سوى التدريس وهو لا يكفى مقتضيات الحياة إذا كانت وظيفة الدخل لأى شخص عامل هو تمكينه من أن يعيد إنتاج ذاته، أى أن يواصل عمله، فدخل عضو هيئة التدريس الجامعى فى مصر لا يكفى لهذا الغرض. عليه أن يبحث عن مصدر دخل آخر إذا كان يريد أن يجد فى عمله بمتابعة الجديد فى مجاله، وأن يضيف إلى هذا الجديد من خلال أبحاثه. أذكر فى هذا الصدد أنى التقيت أثناء دراستى بالخارج واحدا من أساتذتى فى جامعة القاهرة، وسألته عن الجديد الذى يقوم بتدريسه لطلبته بالمقارنة بالعلم الذى تلقيته منه قبل سفرى من مصر، فأجابنى أن انشغاله بالبحث عن الفراخ فى الجمعية ولوازم البيت الأخرى يحول بينه والتفرغ لاكتشاف الجديد فى البحث العلمى. كان ذلك فى سبعينيات القرن الماضى. طبعا لم يعد العثور على الفراخ أو لوازم البيت صعبا فى مصر القرن الحادى والعشرين، ولكن دخل عضو هيئة التدريس بالجامعة لا يكفى بكل تأكيد لضمان عيش كريم أو مستور له، فهو لا يكاد يتجاوز بعد عمر طويل عندما يصل إلى أعلى درجات السلم الجامعى ثلاثة عشر ألف جنيه، وهو قد لا يصل إلى نصف أو ثلث ما يتلقاه بعض طلبته حديثى التخرج. وأترك للقراء الكرام أن يحسبوا كيف وبهذا المرتب يمكن للأستاذ الجامعى أن يوفر مقتضيات الحياة الكريمة. وإذا كان هذا الدخل هو أقل من ثمانمائة دولار، فلكم أن تقارنوه بما يحصل عليه أستاذ بنفس درجته فى أى من الدول العربية أو الإفريقية لكى تعرفوا كيف تعامل مصر أنبغ خريجى جامعاتها. ولا داعى للقول بأن نفقة المعيشة فى مصر هى أدنى من الدول الأخرى، قفد ارتفعت فى السنوات الأخيرة بحيث أصبح العيش بهذه المرتبات الضئيلة تحديا صعبا لأسر الطبقة المتوسطة المصرية. ولاحظوا أن هذا هو مرتب الأستاذ الجامعى، أما مرتبات أعضاء هيئة التدريس الآخرين فتتراوح من ثلاثة آلاف إلى تسعة آلاف، بدءا من المعيدين مرورا بالمدرسين والأساتذة المساعدين.
هذا واحد من الأسباب التى تجعل التدريس فى الجامعة مهنة لا تجتذب الكثيرين من الخريجين النابهين. طبعا شكلت الهجرة إلى بلاد النفط فرصة للتعويض عن ضآلة المرتبات فى مصر، ووسيلة لتكوين المدخرات التى تساعد فى شراء شقة لائقة أو تحمل نفقات تعليم الأولاد والبنات، ولكن تتطاير هذه المدخرات بعد شهور أو سنوات قليلة من العودة للوطن، وتثور الحاجة للهجرة من جديد، أو يتحايل عضو هيئة التدريس الجامعى المصرى لإطالة فترة تواجده فى بلاد المهجر، ولكنه فى الغالب يدفع ثمنا غاليا لذلك، من العيش بعيدا عن الأسرة، أو تحوله إلى إنسان همه الأساسى هو اكتناز المال. وبصفة عامة لم يشكل التواجد فى بلاد المهجر فرصة لتعميق معارف الأستاذ المهاجر. قلة ممن مروا بهذه التجربة عادوا إلى الوطن وقد أضافوا الكثير إلى ما تعلموه أثناء دراستهم للدكتوراه. كما لم يصبح التدريس فى الجامعات الخاصة فى مصر حلا لمشكلة ضآلة دخول العاملين بالتدريس فى الجامعات العامة، صحيح أن الدخل قد يكون أعلى إذا ما كان الانتداب هو لكل الوقت، ولكن ذلك يقترن بأعباء إدارية تستغرق جانبا كبيرا من وقت العمل والذى لا يسمح بالتفرغ اللازم لإجراء الأبحاث. ولذلك ينتهى الأمر بالخريجين النابغين إلى العزوف عن التدريس بالجامعة ابتداء أو الاستقالة من الجامعة بعد فترة قصيرة من الزمن. وأعرف كثيرين من طلابى السابقين ممن فضلوا كذلك، وهو ما تكرر فى كليات أخرى ومنها الطب والهندسة. قارن ذلك الوضع بما كان عليه حال الأساتذة الذين تلقيت العلم على أيديهم فى جامعة القاهرة، وكيف كانوا يجدون فى التدريس الجامعى متعة لا تعادلها متعة أخرى، ولم يكن لدى بعضهم دخل آخر. من هؤلاء المرحوم الدكتور زكى شافعى أول عميد لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية والمرحوم الدكتور سعيد النجار مؤسس جمعية النداء الجديد. أما فى الوقت الحاضر فقد تلاشت الهالة التى كانت تحيط بأساتذة الجامعة، بل أصبح التدريس فى الجامعة موضوعا للتندر فى الأفلام الكوميدية.
***
وليس هذا هو السبب الوحيد فى انهيار مكانة أستاذ الجامعة فى مصر، إذ تعود أسبابه الأخرى إلى فقدان المؤسسات الجامعية والبحثية تدريجيا استقلالها فى اتخاذ قراراتها أو حتى فى توفير الحماية للعاملين فيها. لعلكم تذكرون كيف وقف أستاذ الجيل ورئيس جامعة القاهرة أحمد لطفى السيد إلى جانب الأستاذ العميد طه حسين عندما تعرض لشبهة الاضطهاد من جانب وزير التعليم فى عهده فى سنة ١٩٣٤، ولعلكم تذكرون أن أساتذة الجامعة الذين فصلوا منها فى الخمسينيات والستينيات وأوائل الثمانينيات فى القرن الماضى قد خرجوا من الجامعة بقرارات من السلطة التنفيذية خارج الجامعة. أما العشرات من أساتذة الجامعة الذين فصلوا فى السنوات الأخيرة فقد فقدوا مصدر عيشهم بقرارات من مجالس الجامعات لم تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الخاصة. ولذلك خسرت كثير من الكليات ليس فقط هؤلاء الذين فصلوا ولكن خسرت أيضا كثيرين لا يريدون أن يعودوا إلى الجامعة إما احتجاجا على هذه الأوضاع، أو خشية أن يواجهوا بمثلها.
ولعل أحد الأسباب التى تحول بين المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث العلمية قيامها بهذا الواجب مثلما تقدم عليه النقابات المهنية، كما رأينا أخيرا فى حالتى نقابة المحامين ومن قبلها نقابة الأطباء هو فقدانها للاستقلالية التى ينص عليها الدستور فى المادتين ٢١ و٢٣. ولذلك لا يندهش أحد أن قرارات مثل جعل تعيين المعيدين بموجب تعاقد أو ضم مدينة زويل لوزارة التعليم العالى قد صدرا دون تشاور لا مع الجامعات ولا مع المركز العلمى المختص فى حالة مدينة زويل، بل وحتى بدون شرح للرأى العام أو اعتداد بالآراء المعارضة داخل مجلس النواب. خطورة القرار الأول أنه يسترشد بفكرة طرحها على عهد الرئيس مبارك الدكتور هانى هلال وزير التعليم العالى فى الفترة ٢٠٠٥ــ2011، وكان يدعو إلى جعل تولى كل المناصب الجامعية من المعيد إلى الأستاذ بموجب التعاقد وهو ما رفضته كل نوادى هيئات التدريس الجامعية وقتها. ومن شأن جعل تعيين المعيدين والمدرسين المساعدين بموجب عقد مدته مؤقتة أنه يترك تجديد التعيين فى يد لجان ومؤسسات تسترشد بمعايير أخرى غير الكفاءة والجدارة وتفتح الباب لتدخل أصحاب المصالح الخاصة فى التأثير على قرارات هذه اللجان. وهكذا يصبح الباب الوحيد المفتوح أمام النابغين والنابغات من الطبقات الفقيرة عرضة للتنافس مع أبناء وبنات أصحاب النفوذ والذين قد يكونون أقل نبوغا، وبذلك تضيق هذه الانفراجة الضئيلة فى طريق الصعود الاجتماعى فى مصر أمام من يملكون الموهبة والقدرة ولكنهم يفتقدون النفوذ، وهذا فضلا على أن طريق الصعود الاجتماعي وتضييق فجوة عدم المساواة قد أصبح صعبا لخريجي الجامعات العامة الذين لا يجدون لهم مكانا في سوق العمل. خطورة القرار الثانى أنه يعاقب مؤسسة ناجحة بإخضاعها للإشراف البيروقراطى لوزارة لا نعرف من الذين يتحكمون فى قراراتها وما هى معاييرهم تحديدا.
***
لعلكم تدركون الآن عزيزاتى القارئات وأعزائى القراء أسباب حزنى على ما آل إليه حال جامعاتنا ومراكزنا البحثية. وإذا كنتم ترون معى أن مفتاح تقدمنا فى عصر المعرفة هو تشجيع المؤسسات الجامعية ومراكز البحث العلمى، فربما توافقون معى على أن الأوضاع التى تعيش فى ظلها هذه المؤسسات فى وطننا ليست هى طريقنا إلى التقدم.