نزهة بين غرف العقل
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 27 أكتوبر 2021 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
كثيرا ما يقال إن للمرأة قدرة عالية على القيام بمهمات متعددة فى الوقت ذاته. يقال إن تعدد المهام لطالما كان طريقة حياة للمرأة فى عصر تعمل فيه النساء خارج المنزل وداخله. غير أننى قرأت دراسة أخيرا خلصت إلى أن العقل البشرى لا يقوم بمهام متعددة فى الوقت ذاته بل ينقل الانتباه بين المهام، فتبقى مهام فردية تختلف قدرة الناس على التنقل بينها.
•••
فى اللغة الإنجليزية يستخدم مصطلح «قسم» ويقال إن الإنسان غالبا ما ينظم أفكاره وأعماله فى أقسام: كمن يصنف مثلا أدوات المطبخ من سكاكين وملاعق أو مستلزمات من المكتب من أقلام ومحايات فى علب مختلفة فيسهل التصنيف من عملية العثور على القلم الأحمر أو على شوكة فى المطبخ.
•••
فى عقلى أقسام متداخلة وحجر كثيرة أبوابها مفتوحة فتطير الفكرة من غرفة إلى غرفة وأنتقل أنا بين غرف عقلى طوال الوقت. أختفى من حجرة وأظهر فى أخرى فى ثانية واحدة مثل الساحر فى قصص الأطفال فأنتقل من ورقة أكتبها للعمل حول المساعدات الإنسانية للاجئين إلى وصفة الكبة مرورا بتساؤل حول مستوى ابنتى فى الدراسة وما إذا أنهى ابنى واجب النحو. فى عقلى غرف كثيرة فيها وجوه وأصوات تتداخل حتى يبدو لى أن بعض من فى غرفة العمل يردون أحيانا على من فى غرفة دراسة أولادى.
•••
أقتنع أنا بنظرية التنقل بين المهام وليس بنظرية قدرة العقل على القيام بمهام مختلفة فى الوقت ذاته. إذ أشعر أننى داخل باب دوار كأبواب الفنادق الكبيرة أستطيع الخروج فى زاوية أو أخرى، كل زاوية هى حجرة فى عقلى أخرج وأدخل وأنا أسجل فى دفترى ملاحظات فتختلط وصفات السياسة بوصفات المطبخ بنقاط للنقاش مع المدرسة ولائحة المشتروات من السوق.
•••
رأيت أخيرا لوحة رائعة للفنان المصرى مصطفى الرزاز اسمها الناس والديار، صور فيها ما بدا لى أنه العقل البشرى وقد فرد نفسه على غرف بيوت عديدة. تأملت اللوحة طويلا وحاولت تخيل داخل كل دار رسمها الفنان على أنها مرحلة من مراحل الحياة. دار فى الطفولة ودار فى الشباب ودار عند النضج وفى كل دار (أو مكعب كما صوره الفنان) حكايات بألوان ونغمات منها السعيدة والحزينة دخل إليها الفرد وخرج، فى فترات مختلفة ولمدد مختلفة.
•••
حجرات كثيرة بينها ممرات مظلمة فى أماكن ومضاءة فى أماكن أخرى، قد أعلق أحيانا فى الممر ولا أرى الطريق فأتحسس الجدار حتى أصل إلى باب مفتوح على غرفة مشرقة فيها كرسى ينتظرنى أمام الشباك. أجلس هنا وأحاول أن أتأمل فأطلب من عقلى أن يبقى معى ولا يحاول القفز إلى غرفة مجاورة. هنا من على الكرسى المريح أرى الشارع فى يوم خريفى: ها هو بائع الورد، أعرفه منذ كان طفلا يقف مع والده على هذه الزاوية. هنا بائعة الخبز وجهها بلون الحنطة التى تبيعها وقلبها بدفء العيش البلدى الذى يفطر به أهل الحى.
•••
يخترق تأملى للشارع تذكير بأننى لم أكمل خطة العمل التى ينتظرها زملائى فأقفز من أمام الشباك إلى المكتب وأنشغل بالملاحظات والأرقام والتدقيق اللغوى. أشعر أننى جراح فى غرفة العمليات مع أننى لا أمت للطب بصلة. ولكن بما أن صورة الجراح قد اخترقت خيالى ها أنا أرانى فى غرفة عمليات فى نيويورك أنتظر أن يصلح الطبيب من وضع زوجى وأتذكر شعورى الهائل بالعجز أمام ألم شريكى يومها.
•••
الشريك، أى زوجى، واليوم عيد ميلاد زواجنا الخامس عشر. ها أنا أعبر من المستشفى إلى الفرح، محاطة بوجوه الأصدقاء ممن شاركونا الاحتفال. أقلب بسرعة بين الوجوه والأسماء، أتذكر مراحل التحضير للاحتفال وزحمة التفاصيل. وهكذا أنتقل فجأة من الفرح إلى ثلاث غرف للولادة أنجبت فيها أطفالى. أظن أننى مكتفية وممنونة لكل ما أعطتنى إياه الدنيا إلا فى موضوع الأطفال فلم أكتف وأندم على أننى توقفت عند الرقم ثلاثة! ليتنى أنجبت طفلا رابعا فمع كل طفل ازدادت مساحة النور فى قلبى حتى بت أدخل وأخرج من الحجر دون الحاجة للمرور فى ممرات مظلمة بفضل وجوه أولادى التى تظهر لى بعد العتمة كأقمار تنير طريقى.
•••
هكذا إذا وتماما كما قرأت فى المقال، باستطاعة العقل أن يتنقل بين الغرف أو الأقسام فيتهيأ للمرء أنه يقوم بمهام متعددة بالوقت ذاته بينما الحقيقة كما أراها الآن هو أن عقلى يقفز بين الأقسام طوال الوقت. هذه الغرف التى رسمها مصطفى الرزاز فى لوحته الجميلة التى رأيت فيها قدرة العقل أن يفرد نفسه على قصص وبيوت وبلاد كثيرة بينما يجلس الجسد على كرسى أمام الشباك فى يوم خريفى يذكر بالطفولة وبرائحة ورق الشجر المصفر. أخذت نزهة بين غرف قلبى فى أقل من نصف ساعة، يبدو أن قلبى ما زال بخير!
كاتبة سورية