خارطة طريق مصرية

فاروق جويدة
فاروق جويدة

آخر تحديث: الأحد 27 نوفمبر 2011 - 10:00 ص بتوقيت القاهرة

فى تاريخ الشعوب لحظات صعبة تحتاج إلى مشاعر أعمق فى التجرد وإنكار الذات بحيث تصبح مصالح الوطن فوق كل الاعتبارات بما فى ذلك أحلامنا الخاصة وحين يدخل القطار بنا فى نفق مظلم ونحن فى رحلة سفر فلا ينبغى أن نتوقف مهما كانت الأسباب والدوافع ومن هنا فإننى أعتقد أن مصر الآن فى حاجة إلى قرارات حاسمة حتى لا يتوقف بنا القطار ونجد أنفسنا أمام تحديات تتجاوز قدراتنا على المواجهة ويضيع منا العمر والجهد دون أن نصل على شىء.

 

فى هذا الوقت العصيب تبدو بعض الأفكار والرؤى تطرح نفسها لعل المسئولين عن القرار يجدون فيها ما قد يفيد أو ينفع فى هذه اللحظة الحرجة.

 

نحن أمام شباب غاضب لم يعد يثق فى شىء.. وأمام شارع ملتهب وأمام مواجهات دامية لا أحد يعرف ما سيأتى بعدها وهنا يجب أن يعلو قليلا صوت الحكمة.

 

إن صوت الحكمة يتساءل عن الأسباب الموضوعية التى تجعل السلطة تتعامل مع شباب المصابين بهذه الوحشية رغم أن عددهم لم يتجاوز 30 شابا تحولوا مع مطاردات الشرطة إلى عشرات الآلاف فى ساعات قليلة.. وبدلا من أن نبكى على المصابين فى ثورة يناير أصبحنا الآن نبكى على المصابين والشهداء فى ثورة نوفمبر.

 

بماذا نفسر إطلاق الرصاص وإصابة الشباب فى عيونهم بصفة خاصة وإذا كان الشاب لم يجد عملا وهو يرى فكيف سيعيش بعد أن فقد عينيه.. إن الشاب الذى فقد عينه فى ثورة يناير ثم فقد الأخرى فى ثورة نوفمبر سيظل شاهدا على وحشية السلطة فى العهدين.

 

لا يوجد مبرر واحد لهذا الهجوم الكاسح من الشرطة العسكرية والأمن المركزى على الشباب إلا إذا كان الهدف هو التخلص من هذه الثورة نهائيا، تمهيدا لما هو قادم وليتهم يقولون لنا من هو هذا القادم، الواضح أن المجلس العسكرى لم يقتنع أن ما حدث فى يناير كان ثورة وربما أراد تصحيح هذا الخطأ وحذفها من تاريخ هذا البلد ولهذا كان خروج الشباب مرة أخرى إلى الميدان حتى يعترف المجلس أنه أمام ثورة.. ولكن ذلك كله يلقى بهذا البلد إلى مغامرة غير محسوبة سوف تدفع ثمنها غاليا.

 

لقد تأخر المجلس العسكرى فى أشياء كثيرة ابتداء بالقوانين وانتهاء بالسياسات.

 

كان ينبغى أن يضم المجلس العسكرى بين صفوفه بعض المدنيين القريبين من هموم الشارع المصرى وبذلك يخفف المجلس عن نفسه بعض الأعباء خاصة ما يتعلق بالقضايا الحساسة وعدد من الملفات التى تحتاج إلى معاملة خاصة وأرى أن تضم هذه المجموعة ممثلين للنخبة بمن فيهم جموع الشعب عمالا وفلاحين ومثقفين، مع المرأة والشباب.. لا أدرى ما هى الصيغة التى يمكن أن تكون عليها هذه المشاركة بين المجلس العسكرى والشعب ولكن ذلك سوف ينفى ما يتردد من هواجس من أن المجلس العسكرى لا يريد التخلى عن السلطة.. إن هذه المشاركة سوف تضع أسسا جديدة لحل مشاكل كثيرة تحدث فى مصر الآن وهناك ملفات يمكن أن تبدأ هذه المشاركة فى حلها ومنها ملفات الأمن وهى أخطر قضايا مصر الآن بجانب الفتنة الطائفية والفساد السياسى والمالى وتشجيع الاستثمار وتجاوز الأزمة الاقتصادية.. إن خبرات المجتمع المدنى يمكن أن تضيف الكثير إلى المجلس العسكرى فى إدارة شئون الدولة..

 

كان ينبغى أن نعطى ميدان التحرير إجازة طويلة من المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات أمام قرارات جادة وسياسات حكيمة فى الشهور الماضية ومنذ قيام الثورة.. وأن نختار المكان المناسب لمثل هذه التجمعات بعيدا عن قلب القاهرة، حيث تتعطل مصالح الناس ويتوقف المرور وتصاحب ذلك كله حالة من الشلل التام والتكدس.. لقد أصبح ميدان التحرير رمزا لثورة يناير ويجب أن يتحول إلى مزار سياحى وأن نقيم فيه نصبا تذكاريا للشهداء يحمل صورهم أو على الأقل أسماءهم وأن تقام فيه احتفالات سنوية فى ذكرى قيام الثورة وأن يضاف إلى رصيد ذكرياتنا الوطنية.

 

على المسئولين فى الدولة أن يبحثوا عن مكان مناسب للمظاهرات والاحتجاجات كما يحدث فى كل دول العالم.. إن الأزمة الحقيقية أن ميدان التحرير هو قلب العاصمة وحين يتوقف المرور والحركة فيه يتوقف كل شىء.. وبجانب هذا فإن مركز القاهرة الإدارى والتنفيذى يوجد فى امتداد هذا الميدان، حيث يوجد مجلسا الشعب والشورى ومجلس الوزراء وعدد كبير من الوزارات المهمة، كما أن الحى التجارى يعتبر رافدا من روافد ميدان التحرير.. يجب أن يبقى الرمز وأن تتغير الأحداث بحيث يكون هناك مكان أو أكثر للتظاهر كما يحدث فى كل دول العالم المتقدم.

 

إن مصر فى حاجة الآن إلى حكومة إنقاذ وطنى وليس حكومة انتقالية نحن أمام ظروف أمنية مرتبكة وظروف اقتصادية صعبة وتحولات سياسية ضخمة وأصبح الحديث عن حكومة انتقالية نوعا من الترف ولهذا ينبغى تشكيل حكومة تضم جميع الأطياف السياسية والفكرية والعمرية ومن حق الشباب الآن أن يتصدر قائمة هذه الحكومة..

 

هناك مجموعة من القضايا الخطيرة التى تتطلب الحسم السريع.. يأتى فى مقدمة هذه القضايا قضية الأمن وأنا لا أتصور أن الدولة المصرية بكل إمكانياتها لا تستطيع أن تواجه مجموعة من البلطجية أو الخارجين على القانون.. إن فى مصر الآن ترسانة من السجون فى جميع المحافظات وعلى امتداد الطريق الصحراوى توجد مجموعة ضخمة من السجون والمطلوب هو تجميع هذه المجموعات من البلطجية والتحفظ عليهم فى هذه السجون وتوفير كل أساليب الحياة الكريمة لهم كمواطنين عاديين وليس كمسجونين سياسيين.. لا مانع من الاستفادة منهم فى أعمال الزراعة والصناعات البسيطة وإعطائهم مقابلا ماديا فى هذه الحالة.. إن جمع خمسة آلاف بلطجى من القاهرة وخمسة آلاف آخرين من الإسكندرية وإيداعهم منتجعات وزارة الداخلية على الطريق الصحراوى سوف يكون رسالة للآخرين بأن المصير واحد وسوف يعيد للشارع المصرى الكثير من الهدوء والانضباط.. قد يتحدث البعض عن الجانب القانونى فى ذلك وهنا يمكن الرجوع إلى قانون الطوارئ بل إن القوانين العادية تعطى المجتمع الحق فى حماية مواطنيه أمام اللصوص والبلطجية.

 

لو استطاعت الحكومة اتخاذ هذه الإجراءات فسوف يستعيد المواطن المصرى إحساسه بالأمان وسوف يتم تجفيف منابع البلطجية التى أقامها الحزب الوطنى المنحل.

 

هناك أيضا الأزمة الاقتصادية وكانت الحكومة قد وعدت بإصدار قوانين للفساد السياسى والفساد المالى والتصالح فى قضايا المال العام والغريب أنها لم تفعل شيئا فى ذلك كله.. إن رموز الفساد المالى فى مصر معروفة للجميع ولا تتطلب شيئا غير فتح الملفات وتصفية الحسابات بحيث تستعيد الدولة أموال شعبها المنهوب.. إن البعض يرى أن ذلك سوف يترك آثارا سلبية على مناخ الاستثمار وتشجيع القطاع الخاص ولا شك أن مصر ترحب بكل استثمار جاد أمام أساليب النهب والتحايل فلا مكان لها الآن مهما كانت خسائرنا فى ذلك.. إن فتح ملفات الفساد لا يعنى إطلاقا إهدار الحقوق أو الاعتداء على الملكية الخاصة نحن نتحدث عن تجاوزات وأخطاء أما رأس المال الأمين الصادق فيجب أن نوفر له كل أساليب الحماية والرعاية والتشجيع.

 

من أسوأ الظواهر التى كشفتها ثورة يناير أحوال النخبة المصرية وما أصابها من العلل والأمراض فى سنوات الاستبداد والانتهازية والمصالح.. لا أحد يصدق ما ظهرت عليه النخب الحزبية والفكرية والدينية وما شهدته صفوفها من انقسامات ومعارك.. كان ينبغى أن توحد الثورة كل هذه التيارات وأن تقف فى خندق واحد لمواجهة المشاكل والأزمات ولكن الجميع دخل فى تصفية حسابات تجاوزت كل الحدود حتى إن حجم الانقسامات بين النخبة تجاوز خلافاتها مع الفلول وبقايا النظام البائد.

 

كان استعراض الإسلاميين لقوتهم سلوكا لا يتناسب مع قدسية الإسلام وحرماته لقد خسروا الكثير من التعاطف أمام حالة الغرور والتعالى التى أصابتهم ووصلت إلى حدود التكفير وإسقاط العقيدة مثل إسقاط الجنسية من أجهزة الأمن.

 

وكان هجوم العلمانيين والليبراليين على التيارات والقوى الإسلامية شيئا لا يليق بلغة الحوار واختلاف الرؤى.. لقد ظهرت كل الأمراض التى تركها لنا النظام البائد فى مواقف وانقسامات النخبة والتى قدمت للأجيال الجديدة صاحبة الثورة نموذجا قبيحا للقدوة السيئة.. إن الظروف التى تعيشها مصر كانت تتطلب من النخبة أن تتجرد قليلا وتنسى أهدافها ومصالحها فى سبيل وطن يواجه محنة قاسية مع ماض قبيح وحاضر صعب ومستقبل غامض.

 

لا أتصور أن يقف الأئمة على المنابر وهم يكفرون العلمانيين.. وأن يقف العلمانيون يهاجمون الإسلاميين لأنهم بقايا أبولهب وأبوجهل وأن تتحول الفضائيات إلى ساحة لإظهار أسوأ صورة للنخبة المصرية التى شاركت فى صنع ثورة عظيمة وانفضت عنها بحثا عن غنائم فاسدة ووليمة مسمومة.

 

لقد خسرت جميع القوى السياسية فى هذه الانقسامات.. خسر الإسلاميون الكثير من ترفعهم القديم وخسر العلمانيون الكثير من أصول الحوار الراقى وسقط الجميع فى محاولات وخصومات عقيمة سوف يدفع الجميع ثمنها.

 

كثيرا ما بحثت عن المرشحين للرئاسة ولم أجد أحدا منهم فى الشارع لقد شاهدتهم جميعا على الفضائيات يتحدثون من أبراج عاجية ولم أجد أحدا منهم مع الفلاحين فى حقولهم أو العمال فى مصانعهم أو مع سكان العشوائيات فى منتجعات الخنازير والدواجن.. والأغرب من ذلك هو تلك الثقة الغريبة التى يتحدثون بها وكأنهم دخلوا البيت الأبيض خاصة أن البعض منهم ينزل الشوارع محرضا وداعيا للفتن والانقسامات ما بين علمانية الجهل وإسلامية التشدد.. يحدث هذا رغم أن المكان الحقيقى للمرشحين للرئاسة أن يقدموا خبراتهم وبرامجهم وإدارتهم للمجلس العسكرى والحكومة وأن يكونوا دعاة أمن واستقرار للشارع وأن يكونوا القدوة لشباب الثوار بالحكمة والموعظة الحسنة وصوت العقل والضمير.

 

لا أتصور مجلسا جديدا للشعب فى عهد الثورة لا يمثل فيه جيل الشباب من الثوار تمثيلا حقيقيا أو أن يغيب عنه العدد المناسب من الأقباط أو أن يكون مجلسا ذكوريا تغيب عنه المرأة.. وإذا لم يأت بهؤلاء صندوق الانتخابات وإرادة المواطنين فلا أقل من توفير العدد المناسب لهؤلاء بقرارات سيادية.

 

إن ما حدث فى ميدان التحرير يمثل حالة من عدم الثقة بين شباب الثورة وسلطة القرار ولن يكون الحل بإسقاط وزارة أو تنحية وزير أو إصدار بيان هنا أو هناك ولكن الحل أن يشعر المواطن المصرى أنه أصبح بالفعل شريكا فى صنع القرار وأن هناك من يسمعه أما الأبراج العاجية التى شيدها النظام السابق ومازالت أطلالها تحكم سلطة القرار فقد وصلت بالنظام السابق إلى مصيره المجهول وينبغى أن تكون درسا لكل نظام قادم جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved