شرعية الرئيس ليست دائمة.. وليست ملكه وحده
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 نوفمبر 2012 - 12:55 م
بتوقيت القاهرة
خلال الخمسة أشهر الماضية ــ منذ يوم إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة وحتى صدور الإعلان الدستورى يوم الخميس الماضى ــ دارت خلافات ومعارك عديدة بين القوى السياسية والاجتماعية، حول الجمعية التأسيسية والدستور، وحول عودة البرلمان المنحل، وحول الوضع فى سيناء، وقرض صندوق النقد الدولى، وأزمة الوقود، وغيرها من القضايا المعروفة للجميع. ولكن برغم شدة الخلاف واحتدامه أحيانا، إلا أنه ظل هناك اتفاق واسع بين كل القوى السياسية (فيما عدا الأكثر مغالاة منها) على أن د. محمد مرسى هو رئيس مصر المنتخب بشكل ديمقراطى، وأن شرعيته غير منقوصة أو محل جدال، وأنه يمثل مرجعية يمكن لكل القوى السياسية أن تحتكم إليها حينما يصبح التفاهم بينها متعذرا أو مقطوعا.
هذا الوضع، للأسف الشديد، أصبح مهددا نتيجة للإعلان الدستورى الأخير، والذى قد يكسب به د. محمد مرسى ومعه الحزب الحاكم جولة جديدة فى الصراع الدائر على السلطة، وقد يضمن به استمرار الجمعية التأسيسية برغم ما فيها من عوار وما شهدته من انسحابات واستقالات متوالية، وقد يحمى به مجلس الشورى. ولكنه فى نهاية الأمر قد يخسر من ورائه ما يفوق ذلك قيمة ووزنا على المدى الطويل، وهو شرعية حكمه والاعتراف به رئيسا لكل المصريين، وهذه تكون خسارة ليس للرئيس المنتخب وحده ولكن للمسار الديمقراطى وللمجتمع كله.
شرعية الرئيس المنتخب تأتى من اختيار الغالبية له فى انتخابات ديمقراطية، ولو شابها عيوب ومشاكل كما كان الحال فى مصر. ولكن هذه الشرعية ليست أزلية ولا دائمة، بل استمرارها مشروط بقدر احترام الرئيس المنتخب للمسار الديمقراطى الذى جاء به إلى الحكم وقيامه بكل ما فى وسعه لكى يظل الخلاف بينه وبين خصومه السياسيين فى إطار يسمح بالتعدد وبالاختلاف، وبالاحتكام إلى السلطة القضائية لحسم المنازعات. من هنا فإن استمرار العمل بالإعلان الدستورى الأخير يهدد مصر كلها واستقرار الحكم فيها لأربعة أسباب رئيسية:
السبب الأول أن رئيس الجمهورية لا يملك أصلا صلاحية إصدار إعلان دستورى ولا تعديل الإطار الدستورى القائم، وإنما يملك صلاحيات محددة فى الحكم وفى التشريع وفى إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية لو عجزت عن القيام بعملها فى مدة محددة. أما إصدار إعلان دستورى بشكل منفرد فليس من صلاحياته. والقول بأن الظرف الثورى يتطلب ويبرر قيام رئيس الجمهورية بتجاوز النصوص الضيقة للقانون وللدستور هو قول سليم فى أعقاب أى ثورة وفى اللحظات التاريخية التى تنهار فيها مشروعية النظام القانونى القديم، ولكنه لا يستقيم بعدما تم انتخاب الرئيس بشكل ديمقراطى ولا يجوز حينما يتم التعامل مع الأمر بشكل انتقائى، فنلتزم بحرفية القانون وبمؤسساته حينما يحلو لنا ونتجاهله حينما يصبح عائقا أمام سلطة الحاكم.
السبب الثانى أن قيام د. محمد مرسى بإصدار الإعلان الدستورى الأخير يتعارض مباشرة مع ذات قواعد الدستور المؤقت الذى مهد الطريق ونظم المسار الديمقراطى الذى جاء به رئيسا، الأمر الذى يجعل الإطار الدستورى الحالى كله موضع شك والعمل بأحكامه رهنا بقرار الرئيس وحده. والقضية هنا تتجاوز الخلاف حول نائب عام وحول تعويضات وحتى حول الجمعية التأسيسية، وإنما تثير مخاوف أكبر من فكرة احترام القانون ذاتها وبالتالى مصداقية ذلك على الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى المنشود.
أما السبب الثالث فهو أن الإعلان الدستورى قد تضمن نصوصا وأحكاما تؤدى إلى تحصين قرارات رئيس الجمهورية من الرقابة القضائية، وهذا أمر غير مسبوق ويهدم فكرة التوازن بين السلطات من أساسها لأن سلطة الحاكم فى إصدار قرارات تنفيذية يجب أن تقابلها سلطة القضاء فى الرقابة على هذه القرارات، وإلا كان معنى ذلك استبداد الحاكم بسلطته دون رقيب. لا يوجد مبرر واحد لكى تكون قرارات الرئيس محصنة من الرقابة القضائية، والقول بأن هذا وضع مؤقت فيه استخفاف بالغ بشرعية الحكم.
وأخيرا فإن السبب الرابع هو أن الإعلان الدستورى فى مضمونه وفى توقيت إصداره وفى ملابسات التبرير له يدفع البلد إلى انقسام غير مسبوق ويتجاوز ما هو مقبول من الخلاف على الرأى ومن الخلاف السياسى المشروع إلى التضحية بأمن الوطن وسلامة المواطنين وهذا يفقده شرعيته أكثر من اى اعتبار آخر قانونى أو دستورى. نحن نقترب وبشكل مخيف من هاوية جديدة، ينقسم فيها القضاء إلى فرق وأحزاب، وينقسم فيها الشارع بين مجموعات مستعدة للاشتباك مع بعضها البعض، وتتحول فيها اجتماعات النقابات إلى ساحات للقتال، وكل لقاء جماهيرى إلى قنبلة موقوتة. الدستور والإعلانات الدستورية غرضها الرئيسى حماية الوطن والمواطنين وتحقيق التوافق بين فئات المجتمع ولا يجوز تحت أى ظرف أن تكون سببا ومصدرا للفتنة والانقسام وانهيار المؤسسات التى ينهض عليها المجتمع.
ما يمكن أن يحققه الإعلان الدستورى الأخير لرئيس الجمهورية ولحزب الأغلبية من حسم سريع للصراع على السلطة وعلى كتابة الدستور يقابله خسارة أكبر فى شرعية الرئيس ومؤسسة الرئاسة. والحقيقة أن ما يهدد شرعية الرئيس المنتخب لا ينبغى أن نعتبره خسارة له وحده، بل هى خسارة أكبر لنا جميعا وللمجتمع الذى اختاره ووضع فيه ثقته واعتمد عليه فى الدفاع عن المسار الديمقراطى. الشرعية التى يخاطر بها د. محمد مرسى اليوم ليست ملكا له وحده لكى يفرط فيها أو يتصرف كيفما شاء، بل هى ملك للمجتمع، وللناخبين، ولكل من ضحوا من اجل إعطائنا الفرصة والحق فى أن ننتخب رئيسا لأول مرة. مصلحتنا جميعا هى الحفاظ على المسار الديمقراطى مهما كانت صعوبة اتخاذ قرار العدول عن الاعلان الدستورى الأخير، فالمكسب من هذا العدول لمصر سيكون أكبر بكثير من الفوز فى معركة عابرة ومكاسبها زائلة.