البلقان 1914 والشام 2015

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 27 نوفمبر 2015 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

فى 1914، تسببت حادثة اغتيال واحدة وقعت فى إقليم البلقان المتوتر فى دفع صراعات القوى الأوروبية إلى نقطة اللارجوع وأشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى. فى 2015، تنتشر خرائط الدماء والدمار والعنف فى بلاد العرب ومنها إلى مناطق قريبة منها وبعيدة عنها، على نحو يهدد السلم والأمن العالميين ويورط القوى الكبرى فى صراعات عسكرية وسياسية مفتوحة وخطيرة للغاية.

وكما كانت أرض الشام المسرح الشرق أوسطى الرئيسى لمواجهات الحرب العالمية الأولى، تعود شعوبها فى 2015 لتعانى أكثر من شعوب العرب الأخرى من ويلات الصراع.

فى سوريا، ديكتاتور دموى يرتكب منذ 2011 جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة ضد شعب ثار مطالبا بالحرية، وتعين الديكتاتور على جرائمه قوة كبرى هى روسيا، وقوة إقليمية هى إيران، وقوة غير حكومية فائقة التسليح هى حزب الله اللبنانى.

وتعتاش على جرائم الأسد ونظامه عصابات مسلحة أفسدت الطابع السلمى للثورة السورية، واستحوذت على موارد عسكرية ومالية وتنظيمية مكنتها منها بخليط من الطرق المباشرة وغير المباشرة الحكومة الأمريكية وبعض الحكومات الأوروبية والحكومة التركية وبعض حكام الخليج، وبعض هذه العصابات يتورط فى جرائم قتل وممارسات عنف ضد المدنيين شأنه شأن الديكتاتور.

وتستفيد من جرائم الأسد وجرائم بعض مقاومى حكمه، وتنخرط فى الصراعات الدائرة بدموية ووحشية غير مسبوقتين عصابة داعش الإرهابية التى تمددت من الأرض العراقية إلى سوريا وانتزعت السيطرة الميدانية على بعض المناطق السورية. وبعد أن مكنها نظام الأسد من التواجد على الأرض، من جهة لتشويه الثورة وتعميم وصف «الإرهابى» على جميع معارضى الديكتاتور ومن جهة أخرى لتوريط المعارضين فى حروب إلغاء وصراعات تصفية متبادلة، تغولت عصابة داعش وتحولت إلى المواجهة الدموية مع الديكتاتور وتجاوزت أيضا الخطوط الحمراء التى كانت جهات التسليح / التمويل الغربية والشرق أوسطية والعربية قد وضعتها لها.

فى «الحرب على داعش»، ومسرح الحرب الأساسى هو الأرض السورية، تشارك اليوم الولايات المتحدة الأمريكية خوفا من استمرار الامتداد الإقليمى والعالمى للعصابة التى أضحت حاضرة فى سيناء المصرية وفى اليمن وفى ليبيا وباتت قادرة على تنفيذ جرائم إرهابية على نطاق عالمى. فى «الحرب على داعش» تشارك فرنسا ومعها بعض الحلفاء الأوروبيين للانتقام بعد تفجيرات باريس الإرهابية، ولاحتواء التهديدات الواردة على أمن أوروبا والمرتبطة بتجنيد العصابة لأعداد متزايدة من المواطنين الأوروبيين ذوى الأصول العربية والإسلامية. فى «الحرب على داعش» تشارك روسيا التى تستهدف كل أعداء نظام الأسد، وتبحث أيضا عن الانتقام من داعش بعد إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء. فى «الحرب على داعش» تشارك بعض الأطراف الإقليمية كتركيا والإمارات والأردن بعمليات عسكرية، وبتنسيق استخباراتى مع القوى الكبرى. وعلى الرغم من ذلك، مازالت العصابة فى وضعية صعود، وتتبدل استراتيجيتها من تثبيت وجودها على الأرض فى سوريا والعراق وتنفيذ العمليات الإرهابية فى عموم بلاد العرب إلى المزج بين تثبيت الوجود وبين تهديد أمن الأوروبيين وغيرهم عالميا.

***

وحصيلة جميع هذه الحروب والصراعات الدائرة فى سوريا 2015 هى: أولا، شعب يعانى من ويلات القتل والدماء والدمار والتهجير والارتحال، وتغلق فى وجهه مواطن اللجوء الآمنة بفعل عولمة إرهاب داعش، ولم يتخلص بعد من الديكتاتور ونظامه المجرم الذى ثار أملا فى الخلاص منهما.
وثانيا، زوال فكرة الهوية الوطنية الجامعة للسوريين بعيدا عن هوياتهم الجزئية دينية ومذهبية وعرقية على وقع انهيار السلم الأهلى واختزال الديكتاتور للدولة الوطنية إلى آلة إجرام وقتل وقمع وطائفية.

ثالثا، اندفاع كارثى للجماعات المسلحة وعصابات الإرهاب على الأرض السورية، من جبهة النصرة وأحرار الشام إلى داعش وأعوانها، وامتداد خطوط تسليحها وتمويلها عبر حكومات غربية وعربية وشرق أوسطية، وتورطها فى مواجهات دموية إن ضد نظام الأسد وحلفائه الميدانيين حزب الله وإيران وروسيا (بالترتيب الزمنى للمشاركة فى المقتلة السورية) أو فيما بينها فى حروب بالوكالة بين القوى الكبرى وبين الأطراف الإقليمية.

ورابعا، اقتراب نيران الحروب والصراعات من حواف مواجهات مباشرة بين القوى الكبرى وبينها وبين الأطراف الإقليمية، على النحو الذى تظهره علنا حادثة إسقاط الجيش التركى لمقاتلة روسية، ويدلل عليه التحول النوعى فى إمدادات السلاح الأمريكى الممولة خليجيا والمقدمة إلى مجموعات مناوئة للأسد والتى حالت دون أن تسفر الضربات الجوية والصاروخية الروسية ضد داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام عن استعادة الأسد لتفوقه الميدانى، وتبينه كذلك القوائم المتزايدة لقتلى الحرس الثورى الإيرانى ولحزب الله اللبنانى فى مواقع سورية مختلفة.

خامسا، حالة سيولة فى المشرق العربى بفعل تداخل خطوط الحروب والصراعات وتنوع الأطراف المتورطة من قوى كبرى وإقليمية ومجموعات غير حكومية مسلحة وعصابات إرهابية، وينتج عنها من ثم ارتفاع احتمالية الحروب طويلة المدى الزمنى والصراعات المفتوحة. وتتشابه حالة السيولة الراهنة مع حالة المشرق قبل مائة عام، عند نشوب الحرب العالمية الأولى وخلال سنواتها الأربع 1914 ــ 1918 التى انتهت بسقوط الدولة العثمانية، وتكون الدول المشرقية المعاصرة فى العراق وسوريا ولبنان والأردن، ووقوع فلسطين فريسة للاستعمار الاستيطانى للحركة الصهيونية.

***

فى 1914، تذرعت القوى الأوروبية بحادثة اغتيال ولى عهد الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية فى مدينة سراييفو البلقانية لترجمة تناقضاتها وتكالبها على المستعمرات والأسواق ومناطق النفوذ ومصادر الثروة (الموارد الطبيعية خارج أوروبا) إلى حرب بالغة الدموية رتبت سقوط ملايين الضحايا، وغيرت خريطة العالم فاختفت إمبراطوريات قديمة وظهرت أخرى جديدة، وتكونت العديد من الدول الوطنية الحديثة كما فى المشرق العربى. فى 2015، قد تورط سيولة المشرق العربى القوى الكبرى والإقليمية فى مواجهات غير محسوبة العواقب، وتدفع بنا وبالعالم تدريجيا إلى حافة هاوية الحرب الشاملة بعد أن أغرقتنا فى خرائط الدماء والدمار والعنف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved