الفيلم المرسوم.. «ورد مسموم»
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 27 نوفمبر 2018 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
حين وقف المخرج أحمد فوزى صالح على مسرح دار الأوبرا المصرية قبل يومين ليتحدث عن فيلمه (ورد مسموم) الذى عرض بمهرجان القاهرة السينمائى تذكرت على الفور ما قاله فى إحدى المقابلات الصحافية الشاعر الأمريكى ألن جينسبرج عن شعوره لحظة كتابته قصيدته الشهيرة «عواء» إذ قال: «اعتقدت أنى لن أكتب قصيدة، بل ما أردت كتابته فحسب، من دون خوف، أطلق العنان لمخيلتى، أفضح سريتى. أخربش سطورا سحرية من ذهنى الحقيقى أستخلص فيها حياتى، وأكتب شيئا لن يكون فى وسعى عرضه على أحد، أكتب لأذن روحى أنا، ولقليل من الآذان الذهبية الأخرى»
وفى أجواء ما بعد حركة ١٩٦٨ الطلابية كانت هذه القصيدة التى ترجمها بجمال نادر الشاعر العراقى سركون بولص واحدة من علامات التغيير الكبير التى كانت تتحدى النظرة التقليدية إلى الشعر، وأظهرت بوضوح انتماء صاحبها إلى «الثقافة المضادة» التى أنتجتها حرب فيتنام وبلورت ما أسمته سوزان سونتاج الالتفات إلى آلام الآخرين، حيث الانغماس فى الشأن العام، والسعى لخلق جماليات جديدة، لكن هذه الجماليات على حدتها لم تمنع الشاعر من إبراز اهتماماته الميتافيزيقية التى تجلت فى ديوانه «أنفاس العقل» الصادر عام 1978، وهو ديوان تشبع فيه أجواء التأمل الروحى، ولعل هذا تماما ما يمكن إدراكه فى فيلم «ورد مسموم» الذى ينطلق من طموح كبير لتأكيد هذه الجمالية الجديدة فى طريقة التعامل مع الواقع الذى يصعب إنكار قسوته.
الفيلم بطولة الممثلة الشابة كوكى، وإبراهيم النجارى، وصفاء الطوخى، ومحمود حميدة، ومأخوذ عن رواية بعنوان (ورود سامة لصقر) للكاتب أحمد زغلول الشيطى، شارك الفيلم بمهرجانات عديدة خلال 2018 منها مهرجان روتردام للفيلم العربى فى هولندا، ومهرجان كولونيا للفيلم الإفريقى فى ألمانيا، ونال العديد من الجوائز ومن المقرر أن يبدأ عرضه التجارى فى سينما زاوية اعتبارا من بعد غد الجمعة وفيه نتابع قصة عاملة النظافة تحية التى تعيش مع أمها وشقيقها صقر الذى يعمل فى المدابغ وهو السند الوحيد لهذه العائلة التى تعيش بؤسا لا حدود له وتنظر تحية لحضور شقيقها فى حياتها باعتباره اختصارا كاملا للعالم فهو «السند» بكل ما تعنيه الكلمة، رغم أنها هى العائل الرئيسى للأسرة لأن الأخ والأم يعملان ضمن العمالة الموسمية.
وتتطور الأحداث فى الفيلم ببطء مقصود حين يقرر الأخ البحث عن فرصة للسفر إلى أوروبا بطريق الهجرة غير الشرعية وهو ما تساعده عليه الأم وترفضه الأخت تماما بمواجهة عنيفة تتدفعها للإبلاغ عن رحلة هروبه لتستعيده من جديد، وتبذل تحية كل ما فى وسعها للحفاظ على وجود صقر فى البيت حتى لا يتركها وحيدة إلا أن حلم الخروج من «المدابغ» يظل يراوده.
ورغم الطابع التقليدى للقصة إلا أن طريقة سردها على الشاشة لا تمر عبر المسارات المعتادة، فقد اختار مخرجه سلوك المسار القائم على استعادة شغفه بالمكان القديم الذى قدمه فى فيلمه «جلد حى» (2011) وهو منطقة المدابغ لكن مع إضفاء صبغة روائية لا تكسر الطابع التوثيقى الذى يفضله المخرج، وإنما العمل على تنمية الشعور بسطوة وجوده، فلا يوجد فى الفيلم ديكور بالمعنى المتعارف عليه، لأن المكان الواقعى يفرض حضوره وينتج الدلالات التى احتاج المخرج لتأكيدها، وما استجد على هذا العالم فقط هو حضور الممثلين ومعدات التصوير التى كانت تتحرك على عربات الكارو كما نرى فى فيديوهات الدعاية للفيلم على مواقع التواصل الاجتماعى.
ولا وجود كذلك للإضاءة السينمائية التى اعتدنا عليها، والسيادة كذلك للأصوات الطبيعية التى ينتجها المكان الباذخ الذى تبرز فيه سمة المكان الخبيث أو الديستوبيا التى تبدو على النقيض من اليوتوبيا الرومانسية التى تقدم نفسها كوسيلة للخلاص وتختلط فى هذا المكان أنواع شتى من الموسيقى الشعبية والصوفية مع أصوات المياه الناتجة عن مخلفات عمليات دباغة الجلود ويبرز فى انعكاساتها اللونية، ما يسميه نقاد الفن، اللون الخالد الذى اتخذته المدينة الحديثة بفضل قدرتها على إبراز قوة النفايات وصهرها، وداخل هذه المعادلة بقى لون المبانى الرمادى وحده خالٍ من الاستجابة، هو لون السكون الذى لا يتأسى، وكلما ظل الرمادى داكنا ازداد معه الشعور بـ«القمع الخانق» كما يشير مانليو بروزاتين فى كتابه قصة الألوان.
وفى معالجته البصرية الاستثنائية أبرز المخرج تكوينات مرسومة بعناية فائقة وقف خلفها الفنان عادل السيوى كمستشار للفيلم وأنتجت فى نهاية الأمر جمالية فريدة من قلب المكان وعلى نحو يذكر بما يسمى فى الأدب الواقعية القذرة dirty realism التى يمكن أن نعود فى تعريفها للمقدمة التى كتبها المترجم القدير كامل يوسف لرواية حياة وحشية لريتشارد فور أحد أعلام هذه الكتابة، مؤكدا فهمه للشعور الذى ساور الكثيرين بالصدمة حيال هذا النوع من الأعمال التى تستشرف أفقا غير مألوف فى النتاجات الماثلة أمامنا وعلى نحو غير معهود وأدوات لا يمكن إلا أن تثير الشعور بالصدمة حقا؟
وهذه الصدمة يمكن أن تفسر تعامل بعض النقاد مع الفيلم فى عرضه الأول، فهو مربك جدا فى التلقى لصعوبة ما يسعى إليه، لكن ما قاله النجم محمود حميدة خلال كلمته قبل عرض الفيلم لتفسير مغامرة إنتاجه بعد توقف ما يقرب من عشرين عاما عن الإنتاج صالح كذلك إثارة الدهشة، فالقيمة التى ينبغى دعمها دوما هى المغامرة وقوة التعبير بلغة فنية شديدة الصراحة، لا تعكس شعورها بالدهشة إزاء العالم الذى تقدمه، وكما فى أدب الواقعية القذرة التى يعرفها كامل يوسف يمكن أن يتحقق ذلك من خلال أبسط الأساليب السردية، التى تبرز الأحداث البسيطة والتى تطلب منا أن نكون شهودا عليها. أما ما يبدو أنه يتحدث أكثر من غيره فهو ما لا يقال، ضروب الصمت، ألوان الحذف، صنوف الإلغاء ففى الفيلم تبقى علاقة تحية مع صقر محاطة بغلالة من الغموض المقصود، محكومة بقوانين التواطؤ الذى يثير شغف المشاهد، ويقوده لاختبار أكثر من هاجس لفهم تعلقها بالشقيق صقر وهل هو تعلق محكوم برغبة مكتومة، أم هو استعادة لعلاقة إيزيس وأوزوريس أم تتجلى فى الأخ تمثيلات الثقافة الذكورية التى تقول ضل راجل ولا ضل حيطة، أم هى علاقة فرويدية عن الأب الغائب؟
لا يقدم العمل إجابة ويترك فى ثناياه فجوات من الصمت المتعمد، لأن صاحبه يفكر دائما بمنطق الشاعر الذى يرى ما وراء تلك العتمة الباهرة التى يضج بها المكان، وإذا كان جوتة يقول إنه من المستحيل خلق شىء فاتح من عتمات كثيرة، فإن أحمد فوزى صالح يريد القول إن المخجل حقا هو الإصرار على تجلى العتمة وإبقاء الفقراء وراء أسوار المدينة لأن من نراهم فى الفيلم ليسوا مجرمين، يحملون السلاح ويتقاتلون مع بعضهم البعض.. الفقراء يعملون ويكدون وهم يعيشون وهم الحياة.