غزة مونامور.. الحب الذي هزم القنابل وقيود الاحتلال
تامر شيخون
آخر تحديث:
الإثنين 27 نوفمبر 2023 - 11:10 ص
بتوقيت القاهرة
تعتبر السينما هي صوت المنسيين العابر للقارات، فعلى سبيل المثال عرف العالم عن قُرب قصة الشعب الإيراني ومعاناته وتفاصيل حياته اليومية من خلال إبداعات السينما الإيرانية لأصغر فارهادي وعلي عباس، وغيرهم من المبدعين الذين سردوا للبشرية قصة الإنسان في أوطانهم بعيدا عن سرديات النظام المؤدلجة أو الميديا الغربية المسيسة، لمست حكاياتهم قلوب المتفرجين رغم جهد الأنظمة هناك في كبح الإبداع، خصوصا حين يكون معنيا بالحقيقة وليس الأجندة.
و"غزة مونامور" هو أحد تلك الأفلام العذبة التي تروي لنا حكاية شعوب وأوطان أسقطتها البشرية من ذاكرتها وضميرها عمدا.
أخرجه وألفه التوأم عرب وطرزان ناصر، ويدور حول قصة شابين من غزة في منتصف الثلاثينيات، يعكس مظهرهما الهيبي المتفرد ومشوارهم السينمائي القصير، روحا متمردة تشبه روح القطاع.
ويحكي الفيلم عن الشيخ الصياد عيسى، الذي يعيش وحيدا بلا أهل أو ونس في القطاع، ويبحر ليلا بقاربه المتهالك في المسافة البحرية المسموح له فيها بممارسة الصيد حسب أوامر قوات الاحتلال.
يبحر بحثا عن الرزق الشحيح في مياه غادرها السمك إلا قليلا أو هربا من وحدته القاسية في منزل بارد الأجواء.
يخفق قلبه المرهق المراهق هياما، حين يلمح تلك السيدة المارة في السوق، مثل صبي يتلمس خطاه في دروب العاشقين، يتعقبها متلصصا حتى يعرف أنها أرمل، تملك قوت يومها من متجر خياطة وتعول فتاة، تدرس في الجامعة وتسكن أعلى المتجر، لكن لا تسعفه خبرته في الحياة أو شجاعة قلبه في فك عقدة لسانه كي يبوح بحبه الخجول.
تتعقد الأمور حين يلتقط من البحر مصادفة، تمثالا أثريا للإله الإغريقي أبولُّو، يخفيه في منزله بعيدا عن الأنظار، فهل تنجح قصة حبه الوليد؟ وهل يفلح في حفظ سر خبيئته؟
أجمل ما في الفيلم، أنه لا يصرخ بالسرديات السياسية الصاخبة عن الصراع المحتدم في القطاع، رغم أهمية القضية وتحمل موضوعها استغلال التراجيديا القاتمة، لكن السيناريو فضل الانحياز التام لتفاصيل الحياة اليومية البسيطة للمواطن العادي غير المسيّس، تاركا لها مهمة توصيل الرسائل غير المباشرة دون صراخ أو عنف أو خطابة.
فمثلا، لا نرى مشاهد دموية عن عنف الاحتلال ضد المواطنين، لكننا نعيش التضييق والحصار اليومي على المواطن في رزقه وحرية حركته وظلمة الشوارع.
لا تفجعنا مشاهد الدمار، لكننا نلمح سماء غزة المظلمة تضوي ليلا من بعيد بانفجارات االقنابل تحت دوي القصف، بينما يتسامر الأصدقاء دون جزع كأنهم يثرثرون تحت البرق والرعد في ليلة ممطرة!.
لا نسمع أراء سياسية منتقدة للسلطة المحلية على انعدام كفاءة أو فسادها، لكننا نتلمسها في ملامح عبقرية خاطفة، مثل مشهد المحاولات المتعثرة المضحكة لنقل مجسّم ضخم لأحد صواريخ المقاومة؛ احتفالا بأعياد النصر على نغمات أغنيات فلسطينية حماسية تصلنا مشوشة عبر سماعات متهالكة رديئة الصوت، أو حين نستمع لعبارات الاستغفار والحوقلة على ألسُن الموظفين الحكوميين في وصف التمثال "بالإله" الإغريقي أبولّو!.
تناول الفيلم مأساة حقيقية مفعمة بالتراجيديا، لكنه تناولها بخفة وعذوبة تغلفها رومانسية وتثريها كوميديا سوداء بعيدة عن البكائيات.
اختيار فني ذكي، قرب المواطن الغزاوي من المتفرج في أي بقعة في العالم بغض النظر عن خلفيته العرقية أو السياسية أو الدينية ليجد نفسه في نهاية الفيلم في مواجهة سؤال بديهي، لماذا يعاقب هؤلاء البشر المحبين المسالمين؟
الحُب الخجول الصامت بين عيسى الصياد وسهام الخياطة هو الراوي الحقيقي لقصة الأرض ومأسايها.
وتألق سليم الضو، الممثل الفلسطيني الأصل "من عرب 48"، وصاحب دور محمد الفايد في مسلسل التاج الشهير في دور عيسى، وتألقت هيام عباس الممثلة الفلسطينية الأصل "من عرب 48 أيضا" وصاحبة دور مارسيا روي في المسلسل الشهير Succession في دور سهام.
زسحر الفن يكمن في خصوصية الرؤية التي يرى به المبدع واقعه، وجمال السينما يتعاظم حين تتمكن الصورة من إظهار الجمل وسط قبح العالم دون تزييف الحقيقة.
هكذا انتصر "غزة مونامور" للإنسان والأرض والقضية دون شعارات أو بروباجندا، هكذا أخفى سحر الحب دوي القنابل.
يبقى أن نتذكر أن الفيلم أنتج وعرض منذ 3 سنوات ليبقى شهادة خالدة على قدم الظلم وعدالة القضية ونبل أصحاب الأرض.