لم تبقَ هناك شماعات
إبراهيم الهضيبى
آخر تحديث:
الجمعة 28 ديسمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
إقرار الدستور الجديد يعنى انتهاء آخر «محطات» المرحلة الانتقالية، التى تذرع الحكام بما شابها من عدم استقرار لتبرير عجزهم عن الوفاء بوعودهم الانتخابية، وصارت أمامهم فرصة (تمتد لشهرين على أقل تقدير) لطرح وتنفيذ خطة عمل متماسكة تعبر عن طموحات الثورة ومقاصدها.
•••
لم يعد خافيا أن وعود «التغيير» التى بشر بها الإخوان فى حملاتهم الانتخابية، والمتمثلة فى شعارات كـ«الإسلام هو الحل» و«مشروع النهضة» و«مرشح الثورة»، لم يتفرع عنها مشروع سياسى متكامل، فالبرنامج الذى خاضوا به الانتخابات البرلمانية اتسم بالعمومية، وخلا من أى تعريف لأولويات الأجندة التشريعية، أو برنامج عمل يتناول إطارا زمنيا محددا، ومشروع النهضة ــ الذى قيل وقت الانتخابات أنه مشروع متكامل سينقل مصر إلى مصاف الدول المتقدمة خلال أربع سنوات ــ لم تظهر أوراقه المنتظرة، وقال القائمون عليه بعدها أنه «مشروع فكرى» لا يزال يحتاج للتطوير، فلم يكن الصعود مقترنا بمشروع تغيير ناضج، ولم يستند الإخوان ــ فيما قدموه من وعود فى كل مرحلة ــ إلى فهم منضبط للواقع يضبط سير العمل ويساهم فى تحقيق الإنجاز ويجعل الوعود ممكنة التطبيق.
وبسبب هذا الفقر السياسى، فوجئ الإخوان فى كل مرحلة بتحديات لم تكن فى حسبانهم، ومنعهم غياب المشروع والرؤية المتكاملة (وكذا غياب الخيال السياسى) من التعامل معها بفاعلية، فكانت سببا إضافيا منعهم من إنجاز ما وعدوا به، ثم كان أن تذرعوا بوجود هذه التحديات لعدم الإنجاز، مع أن وجودها معلوم سابق لإطلاق الوعود، ومن ثم فالتذرع بها ــ الذى يعنى عدم سابق الإعداد للتعامل معها ــ هو عذر أقبح من ذنب عدم الإنجاز.
•••
حصد الإخوان أكثرية المقاعد البرلمانية فى الانتخابات التى جرت فى العام الماضى، وانتظر الناس منهم الوفاء بوعود علاج المشكلات الاقتصادية وإنجاز بعض مطالب الثورة، غير أن القضايا التى طرحت خلال الأشهر التى انعقد فيها البرلمان لم تتضمن بشكل جدى قضايا علاج فجوات الدخل (اللهم إلا إقرار الحد الأقصى للأجور، لا للدخول)، والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية على نحو يحقق العدالة الاجتماعية، كما لم تتضمن إصلاح مؤسسات الدولة الرئيسة على النحو الذى طالب به الثوار؛ من تطهير وإعادة هيكلة الداخلية، وإقرار قانون السلطة القضائية، والوقوف أمام التمدد العسكرى على المساحات المدنية، ولم تشمل الأجندة التشريعية للإخوان كذلك تطهير المجال السياسى من رموز الفساد (قانون العزل جاء متأخرا جدا، واقترحه نواب من خارج الإخوان).
ولم تمض إلا أسابيع معدودة حتى بدأت شعبية الأكثرية البرلمانية فى التراجع بسبب عدم اتساق أولوياتها والقضايا التى تطرحها مع القضايا الاجتماعية والسياسية الضاغطة، فحاولت أن تحمل الحكومة مسئولية هذا الفشل (والحكومة من غير شك تتحمل قسطا كبيرا، غير أن ما كان يحتاج للتبرير هو موقف هذه الأكثرية من الحكومة وعدم الإحسان فى تقدير موقفها وكفاءتها)، مؤكدة أن الناس يلومون البرلمان على سوء أداء الحكومة لا سوء أدائه.
كانت الخطوة التالية هى الحفاظ على الشعبية عن طريق الهروب للأمام، بمحاولة تشكيل حكومة، وأكد رئيس مجلس الشعب أن البرلمان قادر على إسقاط الحكومة، فلما عجز عن ذلك لم يتجه اللوم لسوء تقديره هو للأمور، أو غياب الكفاءة السياسية عن الأطراف الأساسية فى البرلمان، وإنما تعنت المجلس العسكرى (وكأنه كان مفاجئا)، فكان الحل فى خوض انتخابات الرئاسة للتمكن بصورة مباشرة من السلطة التنفيذية.
وجاء حل البرلمان والإعلان الدستورى الذى تلاه ليضع قيودا على سلطات الرئيس التنفيذية، وبالرغم من طلب العديد من الأطراف من الرئيس أن يرفض تسلم سلطاته وفق هذا الإعلان، فإنه أصر على أن الإعلان لا يحد من صلاحياته، ولا يوجد أى داع للدخول فى مشكلة مع العسكر حول هذا الأمر، ثم لم تمض إلا أسابيع وكان الإخوان يبررون عجز الرئيس بتآكل صلاحياته من قبل العسكر، واستمر الأمر كذلك حتى صدور قرارات 12 أغسطس، ووقتها طالب الحكام باعتبار هذا التأريخ نقطة البداية لحكم الرئيس، معتبرين ما قبله فى حكم المعدوم لعدم توافر الصلاحيات.
غير أن التمكن من السلطتين التشريعية والتنفيذية فى ظل غياب المشروع لم يكن كافيا للوفاء بوعود المائة يوم التى أطلقها الرئيس فى حملته الانتخابية، وكالعادة، لم يكن المبرر التقصير أو سوء التقدير وإنما الأسباب الخارجية، وكان على رأسها تعنت السلطة القضائية (التى كان حل أزمتها منذ البداية سهلا بإقرار قانون السلطة القضائية)، والتى تذرع الحكام بتدخلها فى الأعمال السيادية للرئيس ومن ثم تقييدها لصلاحياته التنفيذية والتشريعية، فكان الإعلان الدستورى الذى منح الرئيس سلطات مطلقة، قبل اضطراره للاستغناء عنها قبل ضغط الشارع.
وبالتوازى كان الحديث عن «الحاجة للاستقرار السياسى» الذى يؤدى غيابه لأزمات اقتصادية وأمنية، وأن هذا الاستقرار إنما يتحقق بإقرار الدستور، الذى أقر أخيرا فى استفتاء شعبى الأسبوعين الماضيين، والذى ــ بحسب القوى الداعمة له وعلى رأسها الرئيس وحزبه ــ يضبط العلاقة بين السلطات المختلفة (فلا يمكن بعدها التذرع بتدخل القضاء فى أعمال الرئاسة)، ويضع الأسس الاقتصادية التى تحقق النمو العادل وتقلل فجوات الدخل.
وبحيازة حزب الرئيس الأغلبية فى مجلس الشورى ــ الذى انتقلت إليه السلطة التشريعية لحين عقد الانتخابات البرلمانية بعد شهرين ــ فإنه يكون متمكنا من السلطتين التنفيذية والتشريعية، فى إطار وضع مستقر، فيه تحديد واضح لصلاحيات ونطاق عمل كل سلطة، ومن ثم فليس ثمة شماعات أخرى للفشل، وليس ثمة أعذار لعدم إعلان أجندة تشريعية وبرنامج عمل تنفيذى يتعامل بشكل عاجل مع المشكلات الحالة الأساسية، والتى يفترض أن يكون الرئيس وحزبه قد أدركا خلال وجودهما فى السلطة أبعادها التى كان تقصيرهما قبلها قد حال دون إدراكها.
•••
الآن وقد أقر الدستور تبدو الأطراف الموجودة فى السلطة مصرة على صناعة شماعات جديدة لتعليق الفشل عليها فى ظل غياب المشروع، ومن أهم هذه الشماعات القوى المعارضة (التى يرونها غير متعاونة، وتهدف بالأساس لإسقاطهم)، والإعلام (الذى يرونه مغرضا مروجا للشائعات).
وبقطع النظر عما فى هذه الاتهامات من قصر للصورة على بعض أجزائها، وتعمد لعدم رؤية المشهد كاملا، فإن سوء المعارضة والإعلام لا تصلح كذرائع، لأنها ــ بما فيها من مشكلات ــ مكون رئيس لأى نظام تعددى، ولأنها ــ وهو الأهم ــ لا تمسك بمفاصل الدولة، ولا تملك اتخاذ القرار، الذى يملكه فقط الطرف الموجود فى السلطة بشقيها التنفيذى والتشريعى.