ما سيكتبه المؤرخون عن ثورة 25 يناير؟
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 28 ديسمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
أما وقد كاد يكتمل عام على قيام ثورة 25 ياير 2011، فمن المفيد أن نتساءل عما يمكن أن يكتبه المؤرخون عن هذه الثورة، مما لم يكن واضحا تماما فى الأسابيع أو الشهور الأولى التالية لقيامها.
المؤرخون لا يكتبون مثلما يكتب المعلقون على الأحداث اليومية. فالمؤرخ لا يتوقف عند الحدث العارض، ولا يهتم بالشخصيات الثانوية، ولا يحاول أن يشبع نهم القارئ أو المستمع لمعرفة أحدث الأخبار أو ما حدث للمشهورين من الناس. المؤرخ يحاول، بدلا من ذلك، استخلاص المهم من غير المهم، والتميز بين الحادث ذى الآثار الباقية أو الممتدة فى الأمد الطويل، وبين الحادث الذى ينتهى أثره بعد بضعة أيام وسرعان ما ينساه الناس. (كتكوين لجنة استشارية مثلا أو الإعلان عن بدء حوار بين الرئيس والمعارضة، أو حتى الاختلاف حول صياغة هذه المادة أو تلك من مواد الدستور ...الخ) المؤرخ يحاول أيضا أن يضع الحادث فى سياقه التاريخى، فيقارن بينه وبين ما قد يبدو شبيها له مما حدث فى الماضى، كما يحاول اكتشاف آثاره المحتملة فى المستقبل، وهذا يتطلب البحث فى أسبابه، واحتمال بقاء أو تغير هذه الأسباب فى المستقبل.
هل مر وقت كاف على قيام ثورة 25 يناير لكى نقدم على محاولة من هذا النوع؟ لايزال الوقت قصيرا، ولكنى أظن أن هناك من الملامح ما قد يسمح الآن بإثارة هذا السؤال، مع الاعتراف بالطبع بضرورة التعديل والتصحيح مع مرور الزمن.
•••
نحن نسمى ما حدث فى 25 يناير والأيام التالية ثورة، وهى تستحق هذا الوصف من عدة نواحٍ. ولكن ما أشد الاختلاف بين ما حدث فى سنة 2011 وبين ما حدث فى 1919 وما حدث فى 1952، رغم إطلاق وصف الثورة عليها جميعا.
الأهداف مختلفة جدا، والوسائل مختلفة، ونوع الزعماء أيضا مختلف جدا فى الثورات الثلاث، وكذلك ما أسفرت عنه كل منها من نتائج. قد يقال إن الثورات الثلاث كلها فشلت فى تحقيق أهدافها. وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن قد يقال، وبحث أيضا، أن كلا منها فشلت جزئيا ونجحت جزئيا فى تحقيق أهدافها. ومن المؤكد أن من الممكن أن نقول إن مصر بعد أن قامت كل من هذه الثورات الثلاث، لم تعد أبدا كما كانت عليه قبلها، وأن كلا منها قد دفعت بالمصريين عدة خطوات إلى الأمام، أو على الأقل سمحت كل منها لتطورات مهمة كانت تجرى تحت السطح فى المجتمع المصرى لعدة عقود وقبل الثورة، بأن تصعد إلى السطح وتدفع المصريين عدة خطوات إلى الأمام.
إذا كانت هذه الملاحظة الأخيرة صحيحة، فإن التشاؤم الشديد الذى نلاحظه على المصريين فى هذه الأيام، والشعور القوى بالإحباط لا يبدو أنهما مبرران، إلا فيما يتعلق بفترة قصيرة مقبلة. ولا أشك فى أن مصر فى المدى الأطول لابد أن تجنى ثمارا طيبة للغاية من ثورة 25 يناير، مثلما جنت من ثمار من ثورة 1919 ومن ثورة 1952.
ومع هذا، فلا بأس من ملاحظة عدة أمور مهمة لا تتعلق بالتشاؤم أو التفاؤل، بالإحباط أو الابتهاج، مما قد يهم المؤرخين أكثر مما يهم المعلقين على الأحداث اليومية.
•••
من الشيق مثلا أن نلاحظ الاختلاف بين شخصيات الزعماء والرؤساء الذين قادوا أو جلبتهم الثورات الثلاث، وهو اختلاف يعبر عما طرأ على المجتمع المصرى (وعلى الأخص الطبقة الوسطى المصرية) من تغير عبر المائة عام الماضية. فلنلاحظ مثلا الفروق الصارخة بين شخصية كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس، من بين قادة ثورة 1919، وبين شخصية جمال عبدالناصر وأنور السادات، من قادة ثورة 1952، ثم بينهم وبين حسنى مبارك، الذى جاء بعد أن استنفدت ثورة 1952 كل قوتها، ثم بين هؤلاء وبين محمد مرسى الذى جاء فى أعقاب ثورة 2011. إن قرنا كاملا، وهو تقريبا الفترة التى تفصل بين ثورة 1919 وثورة 2011، ليست بالفترة القصيرة التى يمكن أن يستهان بما حدث خلالها من تطورات فى خصائص الطبقة الوسطى التى تنتج الزعماء والرؤساء. فلنتأمل إذن الفوارق الصارخة بين هؤلاء الزعماء والرؤساء.
كان كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس خطيبا مفوها، قادرا على أن يخلب لب الجماهير بفصاحة، وبثقته العالية بالنفس، وبعدالة قضيته، فضلا عن تمكنه التام من اللغة العربية. لم يتم جمال عبدالناصر، بالمقارنة بهذين الزعيمين، يجيد الخطابة بالعربية الفصحى، ولا يستطيع أن يخطب بها إلا بالقراءة من خطبة معدة سلفا، ولكنه كان خطيبا مؤثرا إذا تكلم بالعامية، وقد حظى بشعبية كبيرة. يجب أن نلاحظ مع ذلك الفرق بين بساطة وسائل الإعلام والتأثير الجماهيرى فى وقت سعد زغلول أو النحاس، وبين ما أصبح متاحا أيام عبدالناصر من ميكروفونات وصحف وإذاعة أكثر انتشارا بكثير، وانتهاء بالتليفزيون. لقد استمر تقدم وسائل الإعلام الجماهيرى بالطبع، بعد عبدالناصر، ومع ذلك فقد تدهورت درجة الشعبية التى حظ بها الرؤساء من بعده، رئيسا بعد آخر، فلم يستطع السادات أن يحقق، مع كل ما توفر له من وسائل إعلام متقدمة، درجة الشعبية التى حظى بها عبدالناصر. ناهيك عن ضآلة حظ حسنى مبارك منها ثم محمد مرسى.
هل كان هذا التطور فى أزمة الشعبية نتيجة فقط للاختلافات بين شخصية الرؤساء، وما توفر لكل منهم من وسائل الإعلام، زم أنه تأثر أيضا بطبيعة القضية التى كان يدافع عنها كل منهم؟ أظن أن هذا صحيح أيضا. فقضية التخلص من الاحتلال التى حملها سعد زغلول والنحاس، كانت أوضح وأقدر على تعبئة الجماهير من قضية التخلص من الاستغلال الاقتصادى، (من جانب الأجانب والاقطاع والرأسماليين المحليين) التى حملها عبدالناصر فى الجزء الأكبر من رئاسته، ناهيك عن نكوص السادات وحسنى مبارك عن الدفاع عن القضيتين، التحرر السياسى والاقتصادى، ثم ما بدا من محمد مرسى (حتى الآن على الأقل) من تحول من القضية الوطنية إلى قضية دينية من الملفت للنظر أيضا التدهور الملحوظ فى المستوى الثقافى للزعماء والرؤساء، واحدا بعد الآخر، والذى يعكس بلا شك التدهور الثقافى للطبقة الوسطى المصرية بوجه عام، خلال المائة عام الماضية. كان سعد زغلول ومصطفى النحاس قد درسا القانون فى وقت كان مستوى التعليم فى المدارس والكليات الجامعية فى مصر، أعلى بكثير مما صار عليه فيما بعد، ويسمح لخريج الجامعة بتحصيل ثقافة واسعة تسمح له بأن يعتبر نفسه ندا لأى سياسى أوروبى، بما فى ذلك سياسيى الدولة التى تحتل بلاده.
كان جمال عبدالناصر، بالمقارنة بهذين الزعيمين، أقل ثقافة بكثير، تخرج فى كلية عسكرية لا تتيح لخريجها هذا القدر من الثقافة. ولكن عبدالناصر كان لديه من الذكاء والمثابرة ما سمح له بالافادة من اتصاله بزعماء من دول العالم الثالث أوسع منه ثقافة (من أمثال نهرو وتيتو)، وبالتمييز بين ما يستحق القراءة وما لا يستحق مما يعرض عليه من تقارير. لم يكن لدى السادات هذا النوع من الذكاء ولا هذه الدرجة من المثابرة، ومن ثم تدهور مستوى الخطاب السياسى على يديه تدهورا ملحوظا، واستمر هذا التدهور على يدى حسنى مبارك ثم محمد مرسى، على الرغم من حصول الأخير على درجة الدكتوراه من جامعة أمريكية. إن هذا التدهور فى المستوى الثقافى عبر مائة عام، الذى يمكن ملاحظته على خريجى الجامعات المصرية، بما فى ذلك معظم من سافر منهم لاتمام دراستهم بالخارج، له علاقة، ليس فقط بمستوى التعليم فى مصر، بل وبسمة العصر كله، فى الداخل والخارج، بما فى ذلك الحلول التدريجى لنمط الحياة الأمريكى محل النمط الأوروبى. ولكنى أعتقد أن من أهم عوامل هذا التدهور الثقافى ما طرأ على طبيعة الطبقة الوسطى المصرية خلال هذه المائة عام، وعلى الأخص نوع تطلعاتها، وما تسعى إلى اكتسابه من وراء اتصالها بالعالم الخارجى.
•••
تطور آخر أكثر أهمية من كل ذلك، فى سمات الثورات الثلاث، ويتعلق بالعلاقة بين الريف والمدينة. نحن المصريين جميعا تعود جذورنا فى نهاية الأمر إلى الريف، سواء كان عهدنا بالقرية قريبا أو بعيدا. ولكن من المهم أن نلاحظ كيف نمت وترعرعت ظاهرة «ترييف المدينة» فى مصر خلال هذه المائة عام. إن من الممكن أن نلاحظ هذا حتى فى المقارنة بين شخصيات الزعماء والرؤساء من سعد زغلول ومصطفى النحاس، إلى حسنى مبارك ومحمد مرسى. الجميع لهم وشائج قوية بالريف المصرى، ومعظمهم ولد فى قرية أو مدينة إقليمية صغيرة، ولكن الطابع الحضرى (أى المدنى) فى السلوك والحديث كان أكثر غلبة لدى سعد زغلول والنحاس وعبدالناصر، منه لدى الرؤساء الثلاثة التاليين، واكتشاف تأثير نمط الحياة القروية لدى السادات ومبارك ومحمد مرسى، أسهل من اكتشافه لدى الرؤساء السابقين عليهم. (بل ان الجذور الريفية لدى الرئيس مرسى تبدو لى أقوى بكثير مما كانت لدى أول زعيم لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الشيخ حسن البنا). لا شك أن هذا التطور كان ناتجا عن ارتفاع معدل الهجرة من الريف إلى المدينة، وعلى الأخص فى الستين عاما الماضية، وكذلك النمو السريع فى بعض القرى والمدن الإقليمية الصغيرة حتى تحولت بدورها إلى مراكز حضرية، أو بالأحرى إلى مراكز تختلط فيا سمات حياة القرية والمدينة.
لا أشك أيضا فى أن هذه الظاهرة (ترييف المدينة المصرية) وثيقة الصلة بما طرأ على تفسير شرائح واسعة من الطبقة الوسطى للدين، وهو تفسير يتسم بدرجة أكبر من اللاعقلانية، ومن الاهتمام بالشكليات على حساب جوهر الدين، وبدرجة أقل من التسامح مع الأقليات الدينية. إنى أميل إلى الاعتقاد بأن هذه السمات الثلاث للتفسير الدينى الشائع فى مصر الآن، لم تكن الطابع الغالب لا فى القرية المصرية على مر العصور ولا فى المدينة المصرية، بل هى نتيجة لتغيرات حديثة نسبيا من بينها هذا «الترييف» السريع للمدينة المصرية، بما ترتب عليه من نمو ازدواجية اجتماعية لابد أن يصحبها ارتفاع معدل التوتر فى العلاقات الاجتماعية، وتدهور فى الثقة بالنفس وبالآخرين. لم يكن هذا التطور شيئا حتميا بالمرة، فهذا النوع من الازدواجية وهذه الدرجة من اللاعقلانية وقلة التسامح مع الآخرين لا ينتج إلا فى ظل فشل ذريع فى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية بالسرعة التى تتطلبها زيادة السكان. هذا الفشل فى تحقيق التنمية هو للأسف سمة مشتركة فى الحقب المتتالية من التاريخ المصرى طوال المائة عام التى انقضت منذ ثورة 1919.
هذا قليل من كثير مما يمكن أن يكتبه المؤرخون عن ثورة 25 يناير.