هل الأغلبية جاهزة؟
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 28 يناير 2012 - 11:25 ص
بتوقيت القاهرة
كيف يمكن أن نخرج من مأزق مرحلة انتقالية مضطربة؟ هذا هو السؤال الذى ينبغى أن نخرج به من مشهد مئات الآلاف الذين يتظاهرون فى ميادين الجمهورية مطالبين بإنهاء «الحكم العسكرى».
لا أعتقد أن الحل يكون فى تسليم السلطة الفورى دون وجود رئيس يتمتع بشرعية الانتخاب، وأيضا دون وجود دستور يتوافق عليه المجتمع باختلاف أطيافه السياسية والفكرية، ولكن قد يكون المخرج فى تمكين الأغلبية البرلمانية، التى تحاصرها الشكوك والاتهامات من جانب، وتموج بداخلها مشاعر مختلطة من النشوة والزهو من جانب آخر.
(1)
دعنا نتفق على مسألة أساسية فى البداية أن تفكيك نظام استبدادى لا يعنى بالضرورة نشوء نظام ديمقراطى، بل قد يمهد السبيل لنشوء نظام استبدادى آخر، حين تظن قوى سياسية أن بإمكانها أن تحل محل النظام القديم. قديما قال أرسطو: «إن الاستبداد قد يتحول إلى استبداد». يؤكد ذلك أمثلة حدثت فى تجارب سياسية سابقة فى فرنسا (اليعقوبيون ونابليون)، روسيا (البولشفيك)، إيران (آيات الله)، وكذلك بورما. هناك تخوف لدى قطاعات من المجتمع أن يتكرر هذا فى ظل هيمنة التيار الإسلامى فى مصر. قد يكون ذلك تخوفا فى غير محله لأن التيار الإسلامى لم يصل للحكم فى أى مرحلة سابقة، وقد يكون باعثه الأساسى رفض قوى سياسية لها خصوماتها مع التيار الإسلامى التسليم بفوزه بالأغلبية، لكن سيظل هناك تخوف لا يمكن القفز عليه، أو تغافله، أو التهوين منه. فى دول أوروبا الشرقية التى تحولت من الاستبداد إلى الديمقراطية لم تكن مسألة العلاقة بين الدين والسياسية مطروحة، ولكن فى الحالة المصرية هذه قضية محورية، ومتشعبة فى مناحٍ كثيرة. اللافت أن التيار الإسلامى، ربما إدراكا منه بثقل المتغيرات الخارجية، سعى إلى طمأنة الخارج بالاقتصاد الحر، والحفاظ على المعاهدة مع إسرائيل أكثر من طمأنة الداخل. بالطبع ليس مطلوبا من التيار الإسلامى، بدعوى التوافق أن يتعامل بوصفه «أقلية» رغم أنه يتمتع بأغلبية سياسية. لا يحدث هذا فى أى نظام تنافسى. ومن عجب أن سمعت أستاذ قانون يقول إن فى برلمانات الدول الديمقراطية يأتى رئيس البرلمان من الأقلية، وهو حديث غريب، يفتقر إلى المعرفة، فالأغلبية السياسية ليس لها أن تستحى، ولكن عليها أن تعبر عن نفسها بوضوح، وتطرح برنامجها، وتضع الإطار الزمنى الذى تلتزم به.
(2)
المهمة التى تنتظر التيار الإسلامى، وبالأخص حزب الحرية والعدالة ثقيلة. مطلوب أن يتصدى لتركة عفنة، ويحكم، ويزيل مخاوف، ويثبت كفاءته السياسية. البداية هى أن يتسلم السلطة التنفيذية. يشكل حكومة، ويطرح برنامجا، ويسعى لتحقيقه. لا مجال للانتظار بضعة أشهر. يحتاج المجتمع إلى أن يرى حكومة قادرة تستند إلى تأييد شعبى، وتمتلك رؤية واضحة، وبرنامج محدد المعالم، وقدرات اقتصادية وإدارية. ومادام أنه يمثل الأغلبية، أو أقترب منها ويستطيع التحالف مع غيره من القوى السياسية، عليه أن يشكل الحكومة، ويدخل فى حوار مع المجلس العسكرى لتسلم السلطة التنفيذية دون انتظار انتخابات الرئاسة. وحتى تهدأ المخاوف، ينبغى أن تعلن بوضوح الأغلبية البرلمانية موقفها من تفكيك النظام الاستبدادى الموروث فى مراحل محددة، تأخذ فى اعتبارها العاجل، وما يمكن تأجيله، وذلك عبر سلسلة من القوانين. طبيعة المرحلة الراهنة هى السياسات العامة، لا مجال فيها للشغب أو المماحكات أو المساجلات الملتهبة. أولى الملفات التى يجب التصدى الفورى لها، مادام شرعنا فى بناء نظام ديمقراطى هو «الحريات العامة»، من خلال قوانين تطلق حرية تأسيس الأحزاب بلا شروط تعجزية، وتعزز حرية المنظمات الأهلية، وتعمق الحريات النقابية، وتنحاز للحريات الأكاديمية، وتضمن حرية تداول المعلومات، وتزيل القيود المفروضة على الحرية الإعلامية، وتلغى المعوقات المفروضة على حرية بناء وترميم الكنائس، بحيث يكون تنظيم ممارسة المواطنين للحريات العامة ليس من باب التقييد، ولكن انطلاقا من رغبة فى تمكين المواطنين من التمتع بالحريات الأساسية فى إطار من القانون. الملف الثانى هو التأكيد على استقلالية وحياد مؤسسات العدالة، وهى النيابة العامة، والقضاء، والشرطة بحيث يكون تعاملها مع المواطن فى سياق الشرعية القانونية، ويصبح الوصول إلى العدالة ميسورا، سهلا، لا يتأثر بسبب الاختلاف فى لون أو نوع أو وضع اجتماعى أو معتقد دينى أو ما شابه. الملف الثالث هو السياسات المحلية، بما يتضمن إصدار قانون يدعم اللامركزية، ويشجع مشاركة المواطنين فى الشأن المحلى، وانتخاب هيئات تمثيلية، وأخرى تنفيذية تعبر عن رضاء واختيار القطاعات العريضة، ويشمل الأمر إعادة النظر فى التقسيم الإدارى للمحافظات القائمة، بما يقود إلى ضمها فى أقاليم أساسية تتماشى مع الحقائق السكانية، وإمكانية التوسع العمرانى، وتوفير الفرص الاقتصادية.
(3)
إذا كان ما سبق يمثل مهام عاجلة، وأساسية لوضع لبنات مجتمع ديمقراطى، ويهدئ هواجس المتوجسين، فإن هناك مهام أخرى لا تقل أهمية تتعلق بإيجاد قاعدة موارد حقيقية للدولة، من حيث إعادة تنظيم أراضى الدولة، ووقف العشوائية والنهب فى التعامل معها، ووضع سياسات تساعد على إطلاق الطاقة الإنتاجية، والتوسع فى الإنتاج والحد من الاستيراد، خاصة للسلع الترفية، وتأسيس تعاونيات زراعية حقيقية، وإرساء البنية الأساسية الداعمة للنمو الاقتصادى، وإعطاء دفعة للاستثمار، ومكافحة الاحتكار، وإيجاد فرص عمل لنحو مليون شخص يدخل سوق العمل كل عام، وامتصاص الجزء الأكبر من العمالة فى القطاع غير الرسمى إلى العمل فى الاقتصاد الرسمى، بما يحافظ على هيكل الاقتصاد، ويضمن لهؤلاء العاملين حقوقهم الأساسية، ووضع حد أدنى وأقصى للأجور فى إطار من الشفافية، وإصلاح الجهاز البيروقراطى المتخم والبليد. المسألة باختصار هى إعلان «خطة للنهضة الاقتصادية»، ترصد أولويات وإمكانات، وتسعى لتعبئة موارد المجتمع، وإشراك القطاعات الشعبية فى جهود التنمية، وتفتح المجال على أسس سليمة لمشاركة المصريين فى الخارج فى بناء «مصر الجديدة»، الذين على ما يبدو أصابهم الإحباط، وتسربت شحنة الأمل التى اكتسبوها فى الشهور الأولى لثورة 25 يناير، وأصبحوا الآن فى حالة تشكك هل تمضى مصر فى الطريق الصحيح أم تتعثر خطواتها؟
(4)
هذه هى البداية الصحيحة التى ينتظرها قطاع عريض من المجتمع، وهى المسئولية المباشرة الملقاة على عاتق أغلبية سياسية، أفرزها صندوق الانتخاب، لا يصح التقليل من شأنه، ولا أن نسعى لإبطال مفعوله، بل يجب أن نعطى هذه الأغلبية السياسية فرصتها كاملة. ولكن فى المقابل ينبغى أن تطرح هذه الأغلبية تصوراتها الكلية، لا تدخل بنا فى أزقة السياسة والتكتيكات المرحلية، بل نتبين معها معالم طريق، ورؤية إستراتيجية شاملة لمجتمع متقدم حلم به المصريون، وضحوا من أجله. إذا تحقق ذلك سوف تتلاقى شرعيتان، البرلمان والميدان، وهما فى الواقع شرعية واحدة، الثورة المصرية. وما حدث خلال الأيام الماضية رسالة كاشفة، يجب التقاطها وتسليط مجهر السياسة عليها. المظاهرات الشعبية الحاشدة المطالبة «بإنهاء حكم العسكر» و«تسليم السلطة للمدنيين» تكشف عن أن هناك قطاعا لا يستهان به من المجتمع على استعداد لتلبية نداء الاحتجاج، والتظاهر، والاعتصام فى مواجهة أخفاق السياسة. قد تكون فوهة الغضب اليوم موجهة ضد إدارة «المجلس العسكرى» للمرحلة الانتقالية، لكنها قد تكون غدا فى مواجهة أغلبية أفرزتها انتخابات شابها بعض القصور، لكنها هى الأكثر نزاهة منذ ما يزيد على ستين عاما.