فليحمنا الله من مُعلّمينا
أحمد جمال سعد الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 يناير 2014 - 5:20 م
بتوقيت القاهرة
في السادس من يناير هذا العام، دُفنت مجموعة من الجثث المجهولة، نعرف عنها فقط أن أصحابها فقدوا أرواحهم في مجزرة رابعة الأخيرة، ووصل عددها إلى خمس وثلاثين جثة، في مقابر الصدقة بالبساتين. جثامين لم يتسن التعرّف على هويّاتهم في مصلحة الطب الشرعي. شاهدت بعدها فيديو يصوّر عملية الدفن. شعرت أن ما يحدث أمامي يتجاوز حتى القدرة على التعبير بالوصف المباشر، كأنها واحدة من قصص (محمد المخزنجي) بالتحديد، الذي اعتاد التقاط لحظات أكبر من الحياة ذاتها في العديد من قصصه، مثقلة بالحزن والمجاز المراوغ الذي يصعب الإمساك به، أو التعبير عنه بكلمات واضحة. هذه اللحظات تكون في الغالب بعيدة تماماً- ربما متناقضة كذلك- عن أي موقف سياسي يتم استخدامه كمنظار لرؤية ما يحدث، وتكوين رأي بخصوصه. كما يحدث عندما يُدفن أشخاص كانوا ممتلئين تماماً بالحياة، ثم أصبحوا جثثاً لن يعرف أحد من هم أبداً. مشكلة السياسة هي نفسها مشكلة الواقع الممتلئ بالتفاصيل، التي تحجب الرؤية أحياناً عمّا يجب علينا النظر إليه قبل أي شيء آخر، عن البديهيات التي لا يكتمل الأمر بدونها.
•• •• •• ••
معضلة الحديث عن الاعتبارات الأخلاقية، والحكم على الأشخاص من خلالها، أن من يتبناها يمكن أن ينزلق بسهولة إلى فخّ المزايدات، إخبار الآخرين عن التصرف الصحيح الذي كان يتوجب عليهم فعله، ولم يفعلوه، لكن على الناحية الأخرى يبدو أن من يمنع نفسه من التفكير في نمط معيّن من الأخلاق ينزلق بنفس السهولة إلى عالم نسبيّ تماماً، لا يستطيع الواحد فيه أن يكوّن رأياً واضحاً عن الأمور التي من الأخلاقيّ فعلها، أو تجنّبها. العزلة في النهاية لا تنتج أي شيء. صراع الأخلاق صراع قديم بالفعل، ونتيجته تبدو غير قابلة للحسم أبداً. لكن كثيراً من منظّري الأخلاق اتفقوا على الأقل أن هنالك ما لا يمكن تجاهله أو اعتباره أمراً نسبياً. هذه الأمور يستحيل غضّ النظر عنها، لأنها تلقي بظلالها على كل شيء، وبمجرد حدوثها، فإنها تنسف أي إمكانية للتفكير في غيرها. وهي في الغالب متعلّقة بالحياة نفسها. هذه- بالنسبة لي- ما أستطيع أن أطلق عليه البديهيّات.
•• •• •• ••
من أين نبدأ؟ مثلاً صنع الله إبراهيم يرى أن تدخلات السيسي قد جعلت مصر تقف للمرة الأولى في تحدٍ مع أمريكا، نفس صنع الله إبراهيم الذي تسببت تجربة اعتقاله على يد نظام يوليو العسكري، جد النظام الحالي، عن اثنتين من أهم كتب السجون في الأدب المصري الحديث: تلك الرائحة، ويوميّات الواحات. المخزنجي قرر التصويت بـ"نعم" لأن أعداء الحياة كثر، بهاء طاهر، جمال الغيطاني، أحمد فؤاد نجم الذي غنّى بنفسه: "دولا مين ودولا مين؟" للجنود أثناء فض الاعتصام. الأبنودي الذي ذهب إلى الاستفتاء الأخير شابكاً في عروة بذلته صورة للفريق أول، حامى الديار. وغيرهم..
هنالك قطاع لا بأس به من المثقفين، ونجوم المجتمع، وبعض الذين كانوا يقدّمون أنفسهم على يسار السلطة وفي مقدمة معارضيها، قرروا أن يحدثوننا الآن عن قواعد المنطق وما تفرضه الأمور علينا من قرارات هي "أخف الضررين". هؤلاء تحدثوا طويلاً عن أشياء ثم تنكّروا لها وكأنهم لم يكتبوها، تحدثوا عن قيم وأفكار يفترض تبنّيها- من الأخلاقي تبنّيها- ثم هم يحدثوننا الآن عن التحالفات التي يجب الخضوع إليها كي نحافظ على مكاسب الثورة. المشكلة أن أحداً منهم لم ينصحنا على الأقل بقراءة الأمير لميكافيللي، أو كتب أساسيّات التفاوض وجلسات التحالفات، ربما لو فعلوا لكانت حسرتنا أقل. وكنّا عرفنا الكثير عن صراعات الوجود التي لا يجب أن تحكمها المشاعر أو آلام النظر إلى الدماء المسفوكة. بل هم الآن يتحدثون عن الحياة والجمال والحق، ويدعمون- سواء بالصمت أو بالقول- الموت طالما لا يمسّهم.
هذا القطاع إياه من المثقفين، وهم تعبير أصيل عن الطبقة التي ينتمي إليها أغلبهم حالياً، قرر أخيراً أن يكشف عن أنيابه، ويتجاهل شيئا، وأن يتقدم إلى المستقبل المشرق، لكنه في نفس اللحظة لا يطرح أي فعل ممكن من أي نوع، إلا الارتماء في عالم السلطة، وتبنّي خطابها. المؤسف حقيقة، أنه بهذا لا يفعل إلا أنه ينزع عن نفسه حتى درع الخطاب الأخلاقي الذي لا يملك أحد غيره في هذه الأيام، لهذا ستكون الصدمة كبيرة حين يكتشف أنه بلا أي وزن، وأن السلطة التي يستعد لتقديم التنازلات لها، من أجل تحالفٍ يتوهّمه هو فقط معها، ولا يتعدى مجاله الشخصي للواقع، هذه السلطة بالتحديد، مستعدة لالتهامه مباشرة.
مرّة منذ سنوات، سمعت المخزنجي في إحدى الندوات يتحدث عن أنه لم يقم بزيارة قبر لينين في الساحة الحمراء على الإطلاق، طيلة فترة إقامته في الاتحاد السوفيتي، رأى المخزنجي وقتها أن لينين متواطئ مع ستالين في مجازره الوحشية، وأنه لم يقف في وجهه معارضاً. للأسف الشديد لم يحدثنا عن ضرورات واقع الاتحاد السوفيتي وقتها، وبناء الدولة الذي يجب علينا- طبعاً- أن نضعه في الاعتبار.
ليست المشكلة بالطبع أن يؤيد مثقف القتل في الشوارع، أو أن يعتقد أن القمع خيار ممكن لبناء دولة، أو أن يعتقد بأن الـ98% هي بالفعل تعبير عن رغبة "الشعب" بأكمله. حدث هذا على مدار التاريخ كله، وسيستمر في الحدوث، المشكلة المضحكة أن كل هذا يحدث في مصر بشكل يليق بمدى بؤس الواقع وضحالته.
•• •• •• ••
يا عم الضابط انت كداب
واللي باعتك كداب
مش بالذل حاشوفكم غير
ولا استرجى منكم خير
انتم كلاب الحاكم
وإحنا الطير
انتم التوجيه واحنا السيل
انتم لصوص القوت
وإحنا بنبني بيوت
إحنا الصوت ساعة ما تحبوا الدنيا سكوت
إحنا شعبين.. شعبين.. شعبين
شوف الأول فين؟؟
والتاني فين؟؟
(من قصيدة أحزاني العاديّة_عبد الرحمن الأبنودي)
•• •• •• ••
الحقيقة أنه، يا عم الضابط، انت كدّاب، حتى لو صدّقك الأبنودي نفسه، وكتب فيك الشعر
•• •• •• ••
وسط أحداث محمد محمود، وكل هذا القتل المجانيّ الذي استمر لأيام متواصلة، قرر الإخوان- عدا مجموعة الأفراد الذين تحدّوا قرار الجماعة- استكمال طريقهم في عملية انتخابات مجلس الشعب، لم أستطع فهم هذا المنطق على الإطلاق، حتى هذه اللحظة. ما الذي يجعل أي شخص قادراً على تجاهل كل هذه الدماء التي تسيل، والتفكير في أنه الآن سيذهب للاستفتاء الذي سيغيّر من قوانين الواقع. الواقع الذي ينتهي يوميّاً بعدد قتلى أكثر من سابقه. أي سذاجة تؤدي إلى التعامل مع الواقع بهذا الشكل؟ الأمر ببساطة هو أنه طالما استمرت الدماء، فكل ما يحدث على الناحية الأخرى ليس بذي أهمية أصلاً !
أكرر دائماً أنني لا أحب السياسة- بمعناها الاصطلاحي- وكثيراً ما تثير امتعاضي. ما أتحدث عنه هنا ليس سياسة أصلاً، ولا يفترض بها أن تكون يوماً. هو ببساطة أول بديهية يجدر بها الوجود في أي مجتمع، وهو أن يظل أفراده على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة. أي سياسة يمكننا الحديث عنها بينما نعرف أن كل مظاهرة تنزل الشارع الآن، ستعود يقيناً ناقصة من بعض أفرادها؟
•••••••••
من أكثر التعبيرات التي تلفت انتباهي، هو تعبير "بغض النظر عن..."
امكانيات هذا التعبير مدهشة بالفعل، أبسطها القدرة على إعادة تشكيل الواقع من جديد، طبقاً للنموذج الذي ترغب فيه. وهي تتيح فعلاً أن تمسك بأهم نقطة في الموضوع، وتقوم بإلقائها في القمامة، وتستكمل ما تريد أن تراه بالفعل، لا ما يحدث. يمكننا مثلاً أن نقول ببساطة: "بغض النظر عما حدث في محمد محمود، لكن العملية الديمقراطية مهمة فعلاً، وهي تستدعي منّا كل اهتمام. فلنذهب للانتخابات إذاً". الموضوع فعلاً بسيط. يمكننا كذلك أن نقول: "بغض النظر عمّا حدث- في رابعة، وما تلاها، وعن 2665 قتيل حتى 11 نوفمبر فقط، و15 ألف مصاب، و21 ألف مقبوض عليه وملاحق قضائياً، وعن إطلاق النار العشوائي في الجامعات الذي يصيب أفراداً لا علاقة لهم بأي تظاهرات، وعن أن المساحة الآمنة للبشر، الذين لا علاقة لهم بالتظاهرات أو "السياسة" تتضاءل بشكل مذهل، وعن كل الاعتقالات اليومية التي يعرف الجميع أنها لا بلا معنى- فإننا نور عينيّ السيسي". الآن، بعد أن تجاهلنا هذه الجملة الاعتراضية التي لا معنى لها، يمكننا أن نتحدث جميعاً عن الدولة التي ستنشأ بإجماع الشعب المصري "بغض النظر" عن نسب التصويت وشكلها، والتي تنبئ بمزيد من التعقيد، والعنف والعنف المضاد، في المستقبل.
في واحدة من قصص المخزنجي، بعنوان "الموت يضحك"، تستيقظ أسرة في منتصف الليل على مشهد انهيار سقف بيتهم بالتدريج. ما كان من الابن الأصغر إلا أن زعق بصوت عال: "اصحوا يا حلوين، الموت شرّف عندنا". ببساطة لا تملك الأسرة أي مأوى آخر، والشارع موحل ومطير. والبيت ينهار قطعة قطعة وتباعاً، لهذا قررت الأسرة أن تستمر في المبيت تحت هذا السقف، مع تجاهل احتمالية أن ينهار. الولد الصغير، لم يستطع النوم بسبب خوفه من فكرة أن السقف قد ينهار عليه هو بالتحديد. لهذا قرر أن يغطّي نفسه، ويداري وجهه تحت الغطاء. على أمل أنه لو لم ير السقف وهو ينهار، فكل الأمور بخير.
هوامش:
1- العنوان، أحد الجمل الحوارية من رواية الكُوميك (فردوس الزهراء) الصادرة مؤخراً عن دار صفصافة.
2- كتب المخزنجي عدداً من المجموعات القصصية، أحب منهما بالتحديد مجموعتين قصصيتين من ألطف ما قرأت في حياتي:(سفر) و(رشق السكّين). هذا ما بقي من المخزنجي بالنسبة لي.
3- أرقام الإحصاءات من (ويكي ثورة): http://wikithawra.wordpress.com/
4- "نعم تحدث تلك الثورة.. يغضب الناس فيقودهم ثوار يعدون الناس بالعدل وبالعصر الذهبي، ويبدأن كما قال سيد: يقطعون رأس الحية.. ولكن سواء كان هذا الرأس اسمه لويس السادس عشر أو فاروق الأول أو نوري السعيد، فإن جسم الحية، على عكس الشائع، لا يموت، يظل هناك، تحت الأرض، يتخفى، يلد عشرين رأساً بدلاً من الرأس الذي ضاع، ثم يطلع من جديد. واحد من هذه الرؤوس اسمه حماية الثورة من أعدائها، وسواء كان اسم هذا الرأس روبسيير أو بيريا فهو لا يقضي، بالضبط، إلا على أصدقاء الثورة. ورأس آخر اسمه الاستقرار، وباسم الاستقرار يجب أن يعود كل شيء كما كان قبل الثورة ذاتها. تلد الحية رأساً جديداً. وسواء كان اسم هذا الرمز نابليون بونابرت أو ستالين فهو يتوج الظلم من جديد باسم مصلحة الشعب. يصبح لذلك اسم جديد، الضرورة المرحلية.. الظلم المؤقت إلى حين تحقيق رسالة الثورة. وفي هذه الظروف يصبح لطالب العدل اسم جديد يصبح يسارياً أو يمينياً أو كافراً أو عدواً للشعب بحسب الظروف" (قالت ضحى_بهاء طاهر)