ثلاثة أسئلة اقتصادية عويصة!
محمد يوسف
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 يناير 2020 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
لا يكاد يخلو أى نقاش جاد حول أوضاع الاقتصاد المصرى من التطرق لواحد أو أكثر من هذه الأسئلة الثلاثة. وهذه الأسئلة ليست شائعة فى النقاشات الاقتصادية الدائرة هذه الأيام فحسب، بل هى أيضا من النوعية الصعبة والعويصة، وتحتاج فى الإجابة عليها لتحليل علمى رصين. وكما سيظهر فى ثنايا الفقرات القادمة، تطرأ هذه الأسئلة على الذهن نتيجة وجود مفارقات بارزة فى الأداء الحالى للاقتصاد المصرى، وتحتاج لفض الاشتباك والتداخل بين العديد من المتغيرات الاقتصادية كى تصح الإجابة عليها.
***
فى نقاش يدور حول التحسن الملحوظ فى قيمة الجنيه المصرى فى سوق الصرف الأجنبى، ستجد سؤالا حائرا عن أثر هذا التحسن على مستويات الأسعار فى أسواق السلع والخدمات، أو سؤالا عارضا حول مدى استجابة التداولات فى البورصة المصرية لهذا التحسن. وعندما تستأثر أحوال هذه البورصة على النقاش، ستسمع سؤالا يبحث عن تفسير منطقى للتعارض القائم بين أدائها الحالى وبين أداء الاقتصاد المصرى فى مجمله. وإذا كان النقاش منصرفا لموضوع متابعة وتقييم الأداء الخارجى للاقتصاد المصرى، سيكون السؤال الأكثر حضورا فى هذا النقاش عن الأثر الذى تركته سياسة «تعويم» الجنيه على الأداء التصديرى والاستيرادى المصرى، وعن توجهات هذا الأداء فى المستقبل المنظور.
دعنا الآن نبدأ بالسؤال الأكثر إلحاحا بين هذه الأسئلة الثلاثة. ومنطقه أنه طالما انخفض سعر الدولار، فلماذا لا تنخفض الأسعار؟! أو لم يُقَل أن الارتفاع الكبير فى سعر الدولار كان هو المسئول الأول عن الموجة التضخمية الشديدة التى شهدها الاقتصاد المصرى فى أعقاب «تعويم» الجنيه فى نهاية العام 2016؛ فلماذا إذن لم تتراجع هذه الأسعار بالتزامن مع انخفاض سعر الدولار حاليا؟! إنه حقا سؤال حائر.
وقبل الشروع فى الإجابة على هذا السؤال، فإن القارئ يعلم جيدا أن سعر الدولار فى السوق المصرية كان قد تجاوز حاجز 18 جنيها لكل دولار فى ظل سياسة «التعويم المدار» للعملة، وأنه استقر لمدة سنتين بالقرب من هذا الحاجز. وبشكل متزامن وآنٍ، ارتفع معدل التضخم السنوى فى السوق المصرية فوق حاجز 30% أثناء وبعد هذه القفزة فى سوق الصرف الأجنبى. لكن مع اتجاه سعر الدولار ناحية التراجع مع مطلع العام المنصرم (2019)، ونزوله أثناء كتابة هذه السطور لما دون 16 جنيها للدولار؛ كان من المتوقع أن تتجه جميع الأسعار ناحية التراجع، وأن تتزايد القدرات الشرائية للمستهلكين؛ لكن شيئا من ذلك لم يحدث. فرغم التراجع المحدود لأسعار بعض المنتجات المستوردة، فقد استمر المستوى العام للأسعار فى الزيادة، محققا معدل تضخم سنوى نسبته 9.2% فى العام 2019 وفق بيانات جهاز الإحصاء (لاحظ أن هناك خلطا شائعا بين انخفاض الأسعار وبين انخفاض معدل التضخم رغم الاختلاف الكامل بينهما). فما هو التفسير المنطقى لذلك التناقض؟!
إن علاقة الدولار بمنظومة الأسعار فى مصر هى علاقة معقدة وفى حاجة لتحرير. ذلك أن الدولار يؤثر فى الأسعار المحلية من ثلاث قنوات رئيسية؛ الأولى هى «قناة الاستيراد»، والثانية هى «قناة الإنتاج»، والثالثة هى «قناة التحفيز». وعبر هذه القنوات، عندما يرتفع سعر الدولار أمام الجنيه، سترتفع، وبطريقة مباشرة وبنسبة أكبر، قيمة المنتجات المستوردة وقيمة المنتجات المحلية ذات المكوّنات المستوردة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ ستتحفز ــ لعوامل متعددة ــ أسعار المنتجات المحلية الخالصة، ثم تأخذ الاتجاه الصعودى.
ومن المنطقى إذن القول بأنه كلما انتشرت المنتجات المستوردة والمنتجات المحلية ذات المكونات المستوردة فى أى سوق، كلما كان للدولار مفعول قوى على هيكل الأسعار فيه. وهذا هو الوضع فى الأسواق المصرية. غير أن «دالة الأسعار» فى مصر ليست مقتصرة على سعر الدولار فقط. فهذه الأسعار تنتج أساسا من التفاعل المستمر بين محددات كثيرة للطلب والعرض فى الأسواق؛ وما سعر الدولار إلا محدد واحد منها. فقد ترتفع الأسعار بفعل التغيرات الحاصلة فى دخل المستهلكين وأذواقهم وتوزيعهم الجغرافي؛ أو قد ترتفع نتيجة زيادة تكاليف الإنتاج المحلية (كتكاليف الأجور والمواد الخام والفائدة واقتناء التكنولوجيا)؛ أو قد ترتفع بسبب عوامل تنظيمية أو عوامل موسمية وعارضة؛ وكل هذه العوامل لا دخل للدولار بها.
ولئن كان صعود الدولار لا يتحمل وحده وزر الزيادة التى حدثت فى منظومة الأسعار عموما، وأنه مسئول فقط عن نسبة ــ كبرت أم صغرت ــ من التضخم المصرى؛ فإن الظاهر جليا أن نزول سعر الدولار لم ينعكس مباشرة فى انخفاض الأسعار كما أسلفنا. ولتفسير ذلك التناقض بين أثر الصعود وأثر النزول الدولارى، أُلخص هنا ثلاثة أسباب جوهرية: أولها وجود فترات إبطاء استيرادية طبيعية تُعطل من سرعة نزول الأسعار التى ارتفعت متأثرة بارتفاع سعر الدولار (لاحظ أن طول هذه الفترات يختلف حسب درجة كفاءة النظام الاقتصادى والاجتماعي). فالالتزامات الاستيرادية الآجلة، والبضائع المكدسة فى مخازن المستوردين، وآجال التعاقدات الجديدة، تبطئ كلها من ميكانيكية نزول سعر الدولار على الأسعار المرتبطة به. وثانى هذه الأسباب هو شيوع عوامل نفسية وقيمية تكبح الاتجاه النزولى للأسعار. فالتاجر الجشع لن يُقبل على تخفيض أسعار باتت مقبولة ومُتكَيفا معها من جمهور المستهلكين؛ فجشعه جعله يؤمن أن هذا التخفيض هو من قبيل السذاجة! أما ثالث هذه الأسباب وأكثرها تأثيرا، فتظهر فى العوامل التنظيمية التى تضعف فاعلية الرقابة الحكومية على حركة الأسعار وعلاقتها بالتكاليف والربحية؛ إما بسبب قصور ما تملكه الأجهزة الرقابية من أدوات، أو بسبب تغول وسيطرة الاحتكارات.
وبهذا الفهم التحليلى، فإن وجود ضغوط تضخمية «غير دولارية» بالتزامن مع طول فترات الإبطاء الاستيرادية، وانتشار القيم التجارية السلبية مصاحبة للفاعلية المحدودة للتنظيمات الحكومية، تمثل الإجابة عن السؤال الأول فى الأسئلة الاقتصادية العويصة، والذى دار حول الآثار غير المتماثلة للدولارــ صعودا ونزولا ــ على الأسعار فى الأسواق المصرية.
***
وقت عنفوان سياسات «التعويم»، ساق مؤيدوها من الحجج ما تظهرها وكأنها «المنقذ الأخير» للاقتصاد المصرى. ومن بين هذه الحجج، أن «التعويم» هو الطريق السريع للنهوض بالبورصة المصرية. ودون الخوض فى التفاصيل الفنية لهذه الحجة، ولانتفاء الحاجة لتفنيدها بعدما سقطت فى التطبيق العملى، فإن التحسن الحالى لبعض مؤشرات الأداء الاقتصادى المصرى (ومن بينها قيمة الجنيه) لم يتزامن معه تحسن مقابل فى الأداء العام للبورصة، وللدرجة التى خلقت سؤالا دائما عن مسببات الانفصال بين أدائها وبين الأداء الاقتصادى العام. فمن الشواهد الرئيسية على هذا الانفصال، أن البورصة مازالت غير قادرة على جذب أحجام ملائمة من السيولة الجديدة (محلية ودولية)؛ ومازالت السيولة القائمة داخلها لا تلبى تطلعات الإصدار، وتبعد كثيرا عن القدرات الكامنة للاقتصاد المصرى واحتياجاته الاستثمارية المتنامية؛ كما أن قيم واتجاهات التداولات الحالية لا تعكس حالة الرواج التى بدت عليها بعض قطاعات الاقتصاد؛ وما انفكت تنظيماتها المتنوعة تراوح مكانها، وتتقيد خطط تطوير هذه التنظيمات بقيود غير تنموية، وبما يجعل أثرها الإصلاحى على الأداء المستقبلى للبورصة محل شك كبير.
على أن الأمانة التحليلية تقتضى القول بأن الانفصال القائم بين أداء البورصة وبين الأداء الاقتصادى الحقيقى لا تتحمل البورصة مسئوليته منفردة؛ كونه لا يرجع فقط لضعف التنظيمات القائمة داخلها؛ إنما يرجع لعوامل «بنيوية» وعوامل «نظامية» فى الاقتصاد المصرى. ومن هذه العوامل ما تعانيه السياسات الاقتصادية من شح فى المحفزات التى تدفع بتيارات السيولة الجديدة لتتدفق داخل شرايين البورصة، ومنها أيضا الغياب شبه الكامل للأدوات المالية والنقدية والاستثمارية التى تربط أنشطة التداول بأداء الاقتصاد الحقيقى، وخصوصا فى القطاعات التنموية، ومنها كذلك الجزر المنعزلة التى تعيش فيها الجهات الحكومية المشرفة على سوق رأس المال، وقبل كل ذلك، محدودية الكوادر الاقتصادية التى تعى وتراعى الأطر التنموية الضابطة لسوق الأوراق المالية فى الاقتصاد المصرى الآخذ فى النمو. وبالنتيجة، فبدون التصدى لهذه العوامل البنيوية والنظامية، لن يتغلب الاقتصاد المصرى على حالة الانفصال القائمة بين بورصته وبين أدائه الاقتصادى الحقيقى، وسيظل الاقتصاد الحقيقى هو المرآة التى نشاهد فيها أحوال البورصة وليس العكس!
***
وبالتعريج على السؤال الثالث فى جعبة الأسئلة الاقتصادية العويصة، يتساءل البعض عما إذا كان «تعويم» الجنيه قد عزز من القدرات التصديرية للاقتصاد المصرى، أو ساهم فى ترشيد ميله للاستيراد. وفى ذلك، ولئن كانت نظرة كلية لبيانات الميزان التجارى التى ينشرها البنك المركزى تشير لوجود استقرار فى مقدار عجز هذا الميزان فى أعقاب سياسات «التعويم»؛ لكن التفحص فى تفاصيل التجارة الخارجية لمصر توضح أن هذا الاستقرار مرده للتحسن الملحوظ فى أداء قطاع النفط والغاز وللأداء المتميز لقطاع السياحة، وليس للتحسن فى أداء قطاعى الزراعة والصناعة؛ رغم أن الأداء التصديرى الزراعى والصناعى هو المعيار الموضوعى للحكم على كفاءة وفاعلية سياسة «التعويم». ولهذه النتيجة تحديدا، لا يصح أن يُنسب لسياسة «التعويم» أى فضل فى استدامة الأداء الخارجى للاقتصاد المصرى.
لقد قلت فى مواضع كثيرة إن القدرات التصديرية للاقتصاد المصرى سترتقى فقط إذا ارتقت المهارات الفنية للعامل المصرى فى الوحدات الإنتاجية، وإذا تطورت ما تحوزه مزارعه ومصانعه من تكنولوجيا، وإذا قُضى على طاقاته وإمكاناته المعطلة. أما القول بأن «تعويم» العملة الوطنية خطوة ضرورية داعمة للصادرات من دون ضمان الارتقاء بالمقومات السابقة، لهو قول تدحضه النتائج الفعلية للميزان التجارى المصرى. فرغم أن هذا «التعويم» قد هوى بالقيم الحسابية للمنتجات التصديرية المصرية مقومة بالعملات الأجنبية للنصف، وأنه قد علا بقيم المنتجات المستوردة مقومة بالجنيه للضعف، فإن الصادرات التنموية (بخلاف النفط والغاز والسياحة) زادت فقط من 15 مليار دولار إلى 17 مليار دولار خلال العامين التاليين للتعويم، كما ظل الميل للاستيراد للاقتصاد المصرى على حاله الصعودى.
***
تقودنا الإجابات السابقة عن الأسئلة الثلاثة العويصة عن الاقتصاد المصرى لنتيجة وحيدة؛ وهى أن التنوع بين هذه الإجابات لم يخفِ التشابه والترابط القائم بين المنهج التنموى الذى تم الاعتماد عليه للوصول إليها. وهذا المنهج التنموى هو نفسه الذى يتعين أن يعتمد عليه صانع السياسات الاقتصادية إذا أراد أن يديم على الاقتصاد المصرى أداءه الطيب، أو أراد أن تسير مصر بخطى ثابتة فى طريق التنمية!