المزاج الروائى
سامح فوزي
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 يناير 2020 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
يرى النقاد أن الوقت الراهن هو «زمن الرواية»، مصطلح صكه الدكتور جابر عصفور، ويعنى أن هناك اتجاها واسعا لإنتاج الروايات، وجمهور عريض يُقبل عليها. هناك من هجر تخصصه العلمى إلى الرواية، أو على الأقل انشغل بالرواية إلى جوار عمله الأساسى باحثا فى العلوم الاجتماعية أو طبيبا أو مهندسا أو قاضيا إلخ. وهناك من بدأ رحلة الكتابة بعمل روائى، وهو عدد من شباب المبدعين، اختاروا السرد مساحة يبوحون من خلالها بأفكارهم، ورؤاهم، ومشاعرهم، واتجاهاتهم. هذه الظاهرة ليست مصرية فقط، بل لها امتدادات عربية أيضا، نراها أيضا فى الروائيين العرب، أو فى جمهور الشباب العربى الذى يقبل فى معارض الكتاب على اقتناء الروايات. وتنتشر الرواية أيضا فى الدول الغربية، وهناك انتاج وفير منها، وقراءة مكثفة لها، لكنها لا تأتى على حساب انتاج ونشر المعارف الأخرى، وهو ما أصبحنا نعانى منه فى المجتمع المصرى خاصة لدى بعض الناشرين، الذين مراعاة للتحولات فى اهتمامات القراء يلجأون بكثافة إلى نشر الروايات، ويحجمون أو يقلون من نشر الكتب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
هذه الظاهرة لها دلالات عديدة، ونتائج مهمة.
أدت الكتابة الروائية إلى ظهور جيل جديد من الكتاب، وشريحة جديدة من القراء، خاصة فى أوساط الشباب، الذين يبحثون عن قراءة لتحولات الشخصية، والنفسية العامة، والتغيرات الاجتماعية فى مجتمعات شديدة التغير، لم تعد الكتابة البحثية أو اللغة الأكاديمية المتعالية قادرة على توصيفها. وهى ــ أيضا ــ تعبير عن حالة إرهاق فكرى لدى الجمهور العام حيث لم تعد هناك شهية مفتوحة لقراءة الكتب السياسية أو الاقتصادية أو الأكاديمية من جانب غير المتخصصين، وهو أمر كان سائدا فى عقود مضت. اللافت أن التحولات السياسية التى ارتج لها المجتمع المصرى على مدار السنوات التسع الماضية، وشهدت اهتمام شرائح عريضة من المصريين بالحياة العامة، وشئونها، بعد أن كان هناك من يكتب عن موت السياسة فى أواخر عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، كل ذلك لم يفرز شرائح من القراء للكتابات السياسية، بل شهد ما يمكن أن نسميه زهدا فيها فى الوقت الذى أصبحت الرواية صانعة نجوم فى المجال الثقافى، وحركة نشر، وإقبال على القراءة. ومن ناحية ثالثة، فإن حالة الإرهاق السياسى التى يمر بها المجتمع، ووجود مزاج سلبى تجاه السياسة، أيا كانت أسبابه، جعل من الخيال الروائى مساحة جديدة للخروج من تعقيدات الحالة العامة، وطرح الاسئلة الشائكة، والاشتباك مع الواقع، خاصة بعد التغيرات التى ألمت بالمجتمع. بالطبع لا يجب أن يفهم من هذا الحديث أن هناك عزوفا كاملا عن قراءة الأعمال السياسية أو التاريخية، فلا يزال هناك من تشغله هذه الكتابات، والدليل على ذلك الاقبال الملفت على الأعمال التى نشرت أو أعيد نشرها بمناسبة مئوية ثورة 1919 منذ شهور. لكن هذا لا يخفى حقيقة أن السرد صار له موقع الصدارة فى اهتمامات الكاتب والناشر والقارئ على السواء.
حالة جديدة يشهدها المجتمع المصرى، قد تستمر لفترة أو تتبدل سريعا، لكنها تعبر عن مزاج مختلف، ينبغى الاستثمار فيه حتى يكون إحدى الأدوات المهمة لتنشيط القراءة، ونشر الثقافة العامة.