عندما تصبح الرياضة.. لعبة سياسية

محمد السماك
محمد السماك

آخر تحديث: الأحد 28 فبراير 2010 - 2:25 م بتوقيت القاهرة

 فيما تستعد جنوب أفريقيا لاستضافة دورة بطولة العالم بكرة القدم، ترتفع حرارة التوظيف السياسى لهذه الدورة شأنها فى ذلك شأن سائر دورات الألعاب الرياضية الأخرى.

وكان التنافس بين فريقى مصر والجزائر قد قدّم مثلا سيئا على ذلك لما رافقه من حملات تشهير واتهامات متبادلة بين أجهزة الإعلام فى البلدين الشقيقين. وكذلك كان حادث الاعتداء المسلح الذى تعرّض له فريق دولة أفريقية هى توجو، مما حملها على الانسحاب من دورة بطولة أبطال أفريقيا. وقبل ذلك تعرّض الفريق الهندى بالكريكيت إلى الاعتداء فى أثناء وجوده فى باكستان استعدادا للاشتراك فى دورة دولية كانت تجرى فى مدينة لاهور الباكستانية. ووقع الاعتداء على خلفية الصراع الباكستانى ــ الهندى حول تقرير مصير مقاطعة كشمير.

فما هى العلاقة بين السياسة الدولية والمباريات الرياضية؟

هل يحسّن الفوز بالمراكز الأولى بدورة الألعاب الأوليمبية أو الفوز بكأس العالم فى كرة القدم من موقع الدولة الفائزة على المسرح السياسى، وهل يعزز من سياستها ويدعم السلطة القائمة فيها؟ ولماذا تعتبر خسارة فريق دولة ما، انتكاسة وطنية، والفوز إنجازا وطنيا؟ ولماذا يحرص كبار المسئولين فى الدولة، وحتى الملوك والرؤساء، على حضور المباريات التى تشترك فيها فرق بلدانهم؟ وهل الرياضى الفائز أو الفريق الفائز يعنى أن شعبه بإثنيته أو بعقيدته أو بتوجّهه السياسى، هو الفائز؟ وبالتالى هل أصبحت الملاعب الرياضية مسرحا من مسارح التنافس الدولى؟

***
فى الواقع، وطوال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى «السابق» لم يكن الوضع مختلفا. فالتنافس الرياضى بين فرق الدولتين الكبيرتين تحوّل إلى تنافس معنوى بين الشيوعية والرأسمالية وبين حلف وارسو وحلف الأطلسى! وهو ما حدث قبل ذلك، عندما أقيمت دورة الألعاب الأوليمبية فى برلين عام 1936. فالانتصار الرياضى الألمانى فى ذلك الوقت جرى تحويله إلى انتصار للرايخ الثالث، وبالتالى للنازية ولرمزها أدولف هتلر. فقد استُخدم الفوز الألمانى للإدعاء بأنه فوز للعنصر الآرى، وللنظرية التى كانت تقول بتفوّقه على العناصر الأخرى من بنى البشر.

وحدث شىء من ذلك مؤخرا أيضا أثناء دورة الأولمبياد التى جرت قبل عامين فى بكين. فلقد كان الصراع على أشده بين واشنطن وبكين حول الموقع الجديد للصين فى لعبة الأمم، بعد أن أصبحت قوة اقتصادية كبرى إلى جانب قوتها النووية والبشرية. وهو ما يحدث اليوم أيضا أمام سمع وبصر العالم كله من خلال الاستعدادات لمباريات كأس العالم فى كرة القدم، حيث يتداخل الفوز أو الخسارة مع المشاعر الوطنية لشعوب الفرق المشتركة.

عندما نظمت الأرجنتين بطولة كأس العالم فى عام 1978، وظفت السلطة العسكرية فى ذلك الوقت تلك المناسبة سياسيا، وتمكّنت بذلك من تثبيت أقدامها فى السلطة، ومن تشديد قبضتها الاستبدادية..مما ضاعف من عدد ضحاياها الذين كانوا يُرمون أحياء من طائرات الشحن العسكرية فوق البحر! وقد قضى المئات منهم بصورة غامضة دون أن يعثر حتى على جثثهم فى الوقت الذى كان الملايين يصفقون ويهزجون لانتصار هذا الفريق أو ذاك!

والحماس الوطنى الذى أثاره فوز ألمانيا فى عام 1954 أطلق مسيرتها نحو ما يُعرف بالمعجزة الاقتصادية، التى ما كانت لتتحقق، لو لم يوظف ذلك الحماس الوطنى من اجل إقناع الرأى العام الألمانى بضرورة تحمّل أعباء إقامة نظام اقتصادى جديد يقوم فوق ركام الاقتصاد الوطنى الذى كانت الحرب العالمية الثانية قد دمّرته تماما.

وعندما فازت ألمانيا ثانية فى عام 1974، شكّل هذا الفوز قوة دفع لبرنامج تحديث وتطوير ألمانيا، حتى تبوأت موقع الصدارة فى الاقتصاد الأوروبى بعد أن كانت قد خسرت أثناء الحرب بنيتها التحتية الاقتصادية والإنشائية تحت ضربات القصف الجوى العنيف الذى تعرّضت له. وترافق فوزها فى عام 1990 مع استعادة الوحدة بين شطريها الشرقى والغربى، بعد طول انقسام وتباعد بفعل المعادلات التى أفرزتها الحرب. إلا أنه خلال دورة بطولة العالم الأخيرة فإن سلسلة المباريات التى جرت فى مدينة نورمبرج الألمانية أعادت إلى الأذهان محاكمة مجرمى الحرب العالمية الثانية. لقد تابع وقائع تلك المباريات حوالى المليار إنسان ــ أى سدس البشرية ــ بصورة بدت وكأن المدينة طوت صفحات مؤلمة من تاريخها المأساوى. فالحلفاء الذين انتصروا فى الحرب العالمية الثانية لم يختاروا نورمبرج عن عبث. كان اختيارهم لها ردا متعمدا على ما قام به هتلر فى تلك المدينة بالذات، عندما جعل من تمثال ضحايا الحرب العالمية الأولى الذى كان قد أقيم فيها تخليدا لذكرى 9855 عسكريا من أبنائها قتلوا فى تلك الحرب، قاعدة لإطلاق حركته الثأرية التى فجرت الحرب العالمية الثانية وما رافقها من مجازر جماعية يندى لها جبين الإنسانية خجلا. ففى هذه المدينة نورمبرج أعلن هتلر «أن وحدة الشعب الألمانى تقف فى وجه العالم». أما المباراة النهائية فى تلك الدورة من بطولة كأس العالم فقد جرت فى الملعب الرياضى الكبير فى برلين، وهو الملعب نفسه الذى أقامت فيه ألمانيا بزعامة هتلر دورة الألعاب الأولمبية فى عام 1936، والتى لا تزال أصداء الخطاب الافتتاحى للزعيم النازى ماثلة فى الذاكرة الإنسانية حتى اليوم.

***
أما الولايات المتحدة التى تطرح نفسها اليوم القوة العالمية الأولى فى القرن الواحد والعشرين «وهى فعلا كذلك» فإنها رغم مشاركتها فى كأس العالم لكرة القدم، لا تشارك هذا العالم اهتمامه ــ الذى يصل إلى حد الهوس ــ بهذه الرياضة الشعبية. فالأمريكيون مهووسون بلعبتهم الوطنية. وتذكر الأرقام الإحصائية أن عدد الأمريكيين الذين شاهدوا المباراة النهائية لبطولة الولايات المتحدة فى كرة القدم الأمريكية بلغ 95 مليونا، إلا أنها لم تستقطب من خارج الولايات المتحدة سوى 36 ألف متفرّج فقط!

هذا يعنى أنه ليس صحيحا أن العولمة هى الوجه الآخر للأمركة على الأقل فى الميدان الرياضى. فلا الأمريكان نقلوا لعبتهم المفضلة إلى الملاعب العالمية.. ولا اللعبة الشعبية الأولى فى العالم ــ كرة القدم ــ استقطبت اهتمام الأمريكيين واخترقت جدار ثقافتهم الرياضية.
قد يبدو ذلك متناقضا مع الحقيقة الثابتة، وهى أن الولايات المتحدة هى أكثر دول العالم استيعابا للمهاجرين الجدد، وأنها أكثر هذه الدول تسامحا فى قبولهم (على أى حال، كان ذلك قبل 9/ 11/ 2001 عندما وقعت الجريمة الإرهابية فى نيويورك وواشنطن وتغيّر هذا الأمر بعد هذه الجريمة وتداعياتها). ولكن المهاجر المستوطن سواء جاء من المكسيك أو من الصين، وسواء كان يجهل اللغة الإنجليزية أو يجيدها، وسواء كان مغرما بطبق الهامبرجر أو كارها له، فإنه حتى يكون وطنيا أمريكيا يجب أن يحب لعبة الكرة الأمريكية.

***
إن التوظيف السياسى للرياضة يسىء إلى الرياضة ولا يخدم السياسة. فالسويسريون مثلا يرددون دائما أنهم يؤيدون فى الدرجة الأولى فريقهم الرياضى، ويؤيدون فى الدرجة الثانية مباشرة، أى فريق آخر أيا كانت جنسيته عندما يلعب ضد فريق فرنسى! ولكن ثمة ما هو أكثر إثارة. وهو التوظيف الطائفى والمذهبى للرياضة.

يعرف لبنان هذه الظاهرة السلبية والخطيرة جدا ويعانى منها كثيرا. إذ غالبا ما ينظر إلى تنافس فرق معينة على انه يحمل فى طياته خطر تحريك مشاعر طائفية أو مذهبية. إذ تكفى الإشارة إلى اسم نادٍ رياضى ما، حتى يتم تصنيفه على الفور على حساب هذه الطائفة أو هذا المذهب. طبعا لا تقتصر هذه الظاهرة السلبية على لبنان. فثمة مجتمعات عديدة أخرى تعانى منها أيضا؛ ففى اسكتلندا مثلا غالبا ما يحتدم الصراع على البطولة المحلية بكرة القدم بين فريقين مصنفين كنسيا بين الكاثوليك والبروتستانت، وهما فريقا الرينجرز والسلتيك. وفى إسبانيا فإن فريق بالباو بكرة القدم يمثل الوطنية الباسكية ذات النزعة الانفصالية فى الشمال، وأن فريق برشلونة يمثل «الوطنية الكاتالونية» فى الجنوب الإسبانى، وقد صوّت سكان هذا الإقليم مؤخرا على نظام سياسى جديد يتمتعون بموجبه بحكم ذاتى موسّع، يحدّ من سلطة مدريد المركزية. وفى كل مرة يلتقى فريقا ريال مدريد وبرشلونة يُنظر إلى المباراة وكأنها صراع سياسى بين الجنوب الكاتالونى والشمال. وهو ما يمثله أيضا فريق جزيرة كورسيكا الفرنسية بكرة القدم. فقد قامت فى الجزيرة حركة سياسية تطالب بالانفصال وتتخذ من فرقها الرياضية متنفسا للتعبير عن مشاعرها الوطنية.

وأثناء الدورة السابقة لبطولة العالم بكرة القدم تأهل فريقا السعودية وتونس إلى التصفيات النهائية، فعمّت الفرحة العالم العربى كله. ولكن عندما خسرا فى التصفيات النهائية حل الحزن والخيبة والألم محل تلك الفرحة. وفى الحالتين لم يكن لأداء الفريقين علاقة مباشرة بذلك. فالفرح والخيبة عكستا مشاعر الانتماء القومى، وليس التقدير لمستوى الأداء الفنى.

***
فعندما يكون الحماس للطائفة أو للعقيدة السياسية فى المباريات الرياضية، يفقد المتفرج الملتزم متعة وقائع التنافس الرياضى، فلا يرى فى الأداء الفنى للفريق المنافس سوى أخطاء يرتكبها الفريق الذى يريد له الفوز حتى لو لم يكن جديرا به.

يبقى السؤال التالى، وهو: هل يمكن أن يغيّر عنصر المال من خلال المراهنات على نتائج المباريات الرياضية من هذه الصورة؟ بمعنى هل تتقدم المصلحة الشخصية فى الرهان على الفرق المتنافسة..على حساب الولاء السياسى أو الطائفى؟

حتى الآن لم تتغيّر هذه الصورة. فالرهانات غالبا ما تكون على فوز الفريق الذى يمثل وطن المراهِن أو مدينته أو أبناء ملّته.
وتلك هى آفة الرياضة بالأمس واليوم، وحتى إشعار آخر..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved