ماذا يقترح المتحذلقون والساخرون؟
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 28 فبراير 2018 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
لا يمكن أن تلوم البعض عندما يصابون بخيبة الأمل والشعور باليأس أمام الأوضاع المأساوية المفجعة المجنونة التى يعيشها وطنهم العربى. بل ونتفهم عندما تقود تلك الخيبات البعض إلى الرغبة فى اعتزال حياتهم العامة والانكفاء داخل قوقعة الحياة الخاصة. فالمصائب والانتكاسات كثيرة، والآلام عميقة لا تطاق. ثم إن الشعور بضياع الجهود وبعقم التضحيات التى بذلوها طيلة حياتهم فى سبيل الصالح العام يولد عند البعض مشاعر الشماتة والرغبة فى الانتقام.
النتيجة هى انقلاب هؤلاء من مثقفين ومناضلين ملتزمين بقضايا أمتهم إلى متحذلقين وساخرين مستخفين بكل شعار وفكر وممارسة يتمسك بهم القابضون على الجمر والمصرون على ألا يموتوا إلا وهم واقفون ومرفوعو الرأس.
ولكن، هل حقا أن الوصول إلى تلك الحالة من اليأس والشعور بأن الأحزاب والحكومات والجيوش قد خذلتهم يستدعى الكفر بكل شيء؟ فالنضال من أجل أى نوع من الوحدة العربية، سواء أكانت جزئية أو شاملة، هو مراهقة سياسية يجب أن نخرج منها.
والحديث عن الفكر الاشتراكى هو هذر طوباوى تخطاه الزمن وأثبتت استحالة تحقيقه فى الواقع تجربة الاتحاد السوفييتى السابق عبر سبعين سنة من المحاولات.
***
أما رفض ومقاومة الوجود الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى فى فلسطين فهو نوع من العبث الطفولى العاجز فى السياسة والذى يجهل كيف يتعامل مع الواقع الدولى ويتعامى عن رؤية الإمكانيات الصهيونية التكنولوجية والسياسية والعسكرية الهائلة المدعومة من دولة عظمى.
وأما المطالبة بالاستقلال القومى وحرية الأوطان ورفض التدخلات الأجنبية وهيمنتها على مفاصل الحياة العربية فإنه دليل على الجهل بمتطلبات العولمة الاقتصادية وتعقيدات تشابك المصالح المتبادلة بين الدول.
إنه إذن رفض لكل أفكار وشعارات وأهداف كل الأيديولوجيات التى طرحت على نطاق عربى واسع خلال القرن العشرين، سواء أكانت الأيديولوجية القومية العربية بشتى تنظيماتها السياسية، أم كانت الإسلامية السياسية بمختلف أطروحاتها، أم كانت الماركسية بكل أنواع مسمياتها، أم حتى الليبرالية الكلاسيكية التى تزيحها بقوة وإصرار النيوليبرالية البرجماتية العولمية التى تجتاح عالمنا وعصرنا الحالى.
إن الرفض لكل فكر أيديولوجى شامل، حتى ولو كان متماسكا، والانتقال إلى التعامل مع ما تأتى به الأيام بصور تجزيئية لا ترابط بينها، والانصياع لحقائق الواقع دون موازين قيمية وسياسية أو وطنية أو قومية، هو الذى تطالب تلك الجماعات بممارسته وتعتبره دليلا على انتقالنا إلى العقلانية والنضج السياسى.
حسنا، هذا هو منطقهم، فلنسأل عن معانى ونتائج ذلك المنطق.
أولا: نحن نفترض أنهم يتكلمون بصفتهم أصحاب معرفة وثقافة، فما هى صفات ومهمات المثقفين عبر التاريخ الإنسانى كله؟
هذا موضوع كبير وواسع، ولكن يمكن اختصاره فى أن المثقفين عبَّروا دوما عن ضمير المجتمع، واندمجوا فكرا وممارسة فى قضايا المصير العام، وهيأوا المجتمعات للقبول بالتغيرات المجتمعية الكبرى من خلال لعب أدوار المجددين الفكريين والمصلحين الاجتماعيين فى آن واحد، ولعبوا، كلما تطلب الأمر، أدوار حاملى المعرفة والدُعاة والمناضلين، وانتهى بعضهم إلى تحمل مرارات التهميش والسجون أو حتى الشهادة.
فهل تستطيع جماعة المتحذلقين والساخرين من ثوابت الأمة وأحلامها، والداعين إلى استسلامها لقدرها ولجلاديها ولمستبيحى ثرواتها، أن تدعى بأنها تتكلم كجماعة مثقفة، إذ هل تنطبق عليهم أى من تلك الصفات ويلتزمون بأى من تلك المسئوليات؟
فإذا كانت صفة المثقف لا تنطبق عليهم، فبأية صفة يتحدثون؟ وهل نلام إن بدأنا نشمُ فى أقوالهم ومواقفهم رائحة خدمة هذه الجهة الأجنبية أو تلك السلطة المحلية؟
ثانيا، لنفترض حسن النية ولنعذر الضعف الإنسانى فى هؤلاء، ولنطرح السؤال التالى: ما الذى يقترحونه بديلا عن تلك الثوابت فى الأيديولوجيات العربية المختلفة؟
***
هل يقترحون القبول بتجزئة الأمة العربية الحالية إلى دويلات ودول عاجزة أو متناحرة أو محتلة أو فقيرة؟ هل حقا أن التفكير فى نوع اتحادى عملى ومعقول وتدرجى هو ممارسة للمراهقة السياسية؟ ألا يرون أن العالم كله يتجه إلى تكوين تكتلات اقتصادية أو سياسية أو أمنية قادرة على السباحة فى بحار العالم الحالى الهائجة والمليئة بكل أنواع الأخطار؟
هل أن المناداة بنظام عدالة اجتماعية تقود إلى توزيع عادل للثروة، وبناء للكرامة الإنسانية فى كل مواطن، وتوسيع أكبر للطبقة المتوسطة، وقضاء على الفقر المدقع، هى حديث عن أفكار بالية ما عادت صالحة لعصرنا العولمى الرأسمالى المتوحش؟
هل يريدون التضحية بحقوق وأحلام وتطلعات مشروعة لاثنى عشر مليون فلسطينى عربى باسم الواقعية السياسية فى التعامل مع الفكر والممارسات والجرائم الصهيونية؟ وماذا عن مشروع إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل؟ هل سيقبلونه دون مقاومة له ولحامليه وداعميه؟
ما الذى يقترحونه لإيقاف التدخلات والاحتلالات والابتزازات والنهب للثروات التى تمارسها القوى الاستعمارية بحق الوطن العربى كله؟
هل يرضيهم انتقال الحل والعقد لكل قضية عربية إلى يد الآخرين، وموت الجامعة العربية البطيء، وتمزيق كل تجمع إقليمى عربي؟ ما الذى يقترحونه لمواجهة هذا الوضع المأساوى فى حياة كل العرب؟
لن نقبل بسماع قهقهات هؤلاء المتحذلقين ولعبهم بالنار واستخفافهم بكل ثوابت مطروحة لإخراج هذه الأمة من تخلفها التاريخى ومن ضعفها المذل وهى تنتظر الموت.
إذا كانت لديهم أفكار أفضل، تحمى هذه الأمة وتخرجها من الجحيم الذى تعيشه، فليقدموها، وإلا فليسكتوا وليدعوا الآخرين ليقبضوا على الجمر.
ما يوجع القلب أننا أصبحنا نعيش فى عصر عربى لا يتصف بتواضع مثقفيه، وإنما بصلف بعضهم إلى حدود الجنون والانتحار.
dramfakhro@gmail.com