العقوبات الغربية والمغامرات الروسية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 28 فبراير 2022 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
ما إن اعترف الكريملين بجمهوريتى دونيتسك ولوهانسك، وشرع فى نشر قوات روسية فى الكيانين الانفصاليين، حتى انهالت تترى على موسكو عقوبات غربية «مدمرة» من واشنطن وبروكسيل وحلفائهما حول العالم، مستهدفة شبكة البنية التحتية للطاقة والتمويل. ومع بدء الغزو الروسى لأوكرانيا، انبرى الحلفاء الغربيون فى فرض تدابير عقابية مغلظة متتالية فى إطار ما أسموه «أم العقوبات»،التى تتخطى الشخصيات والمؤسسات والمعاملات، لتشمل عزل روسيا عن النظام العالمى، وشل اقتصادها، الذى أمسى «عدوانيا وداعما للحرب».
لئن كانت خطورة الدُب تبلغ ذروتها عندما يكون جريحا، فإن شراسة الدب الروسى تتصاعد على وقع النزيف الناجم عن العقوبات. فلم تفض معاقبته على غزو جورجيا عام 2008، أو ضمه شبه جزيرة القرم عام 2014، إلى تقويض إرادته الحربية. فبعدما شن حربه الممتدة فى سوريا عام 2015، لم تردعه الحزمة الأولى من العقوبات الغربية غير المسبوقة، عن خوض خامس مغامراته العسكرية من خلال مواصلة حربه الهجينة فى أوكرانيا، تحت شعار «الدفاع عن دونباس». فلقد ابتغى فرض وضع حيادى على أوكرانيا، يكفل تقويض قدراتها العسكرية، ويتيح إنهاء «الخطر الوجودى»، المتمثل فى تمركز البنى التحتية العسكرية للناتو على تخوم بلاده. كما توسل الانتقام من تجاهل الغرب لمخاوف روسيا الأمنية المشروعة، وإصراره على محاصرتها جيوسياسيا، وإجهاض مساعيها لاستعادة مكانتها كقوة عظمى كونية.
بمجرد تبييته النية للسيطرة على شرق أوكرانيا، شرع بوتين فى التأهب لأسوأ السيناريوهات العقابية، عبر طائفة من الإجراءات الاحترازية الوقائية، الكفيلة بتمكين بلاده من امتصاص الصدمة الأولى. فعقب ضمه القرم عام 2014، بدأ بوتين بناء «دفاعات اقتصادية»، أو «حصن مالى»، لضمان ضبط أوضاع الاقتصاد الكلى، وتعزيز احتياطيات النقد الأجنبى، تحسبا للعزل عن نظام «سويفت»، حتى بلغ احتياطيه النقدى لدى البنك المركزى الروسي 644 مليار دولار، ليغدو الرابع عالميا. بموازاة ذلك، تم تطوير نظام مغلق للرسائل المالية خلافا لنظام «سويفت». كما تفنن فى تقليص الاعتماد على الدولار الأمريكى، ودعم الإنتاج المحلى البديل للواردات، وتطوير صناعات محلية، لتحجيم استيراد المنتجات الغربية.
وبناء عليه، تجابه روسيا الأزمة الحالية بأسس اقتصادية أفضل من أى وقت مضى، مع تحقيق فائض فى الميزانية، وتوفر غطاء مالى يعادل نحو 12 %من إجمالى الناتج المحلى، وتعاظم قدرة السوق المحلية على استيعاب الديون المستقبلية المقومة بالروبل، وتواضع الآثار المالية للقيود المفروضة على الإصدارات الجديدة للديون السيادية، إثر انخفاض مستوى الدين العام إلى 16%، واستفادة صندوق الثروة الوطنى من انتعاش عائدات تصدير النفط والغاز، بعد طفرة الأسعار خلال العام الماضى، وتحول روسيا فى 2020 إلى مُصدر للمنتجات الزراعية. ولم يكن صدفة إعلان وزير المالية الروسى، قبل نحو عام، اعتزام الصندوق السيادى تصفية أصوله من الدولار،البالغة نحو 35 %، واستبدالها بسلة عملات، تتضمن: 40% لليورو، 30 % لليوان، 5 % للجنيه الإسترلينى، 5 % للين، و20 % للذهب.
لطالما ناشدت أوكرانيا الغرب تنفيذ «الخيار شمشون الاقتصادى»، المتمثل فى عزل روسيا عن نظام «سويفت» للمبادلات والتحويلات المالية العالمية، بما يقوض معاملاتها التجارية الخارجية، ويحرمها عوائد تصدير المواد الخام. بيد أن موسكو تحسبت لذلك ببحث استخدام أنظمة بديلة وعملات رقمية، إضافة إلى تعاقدات جديدة مع حلفاء آسيويين كالصين، لزيادة صادرات الطاقة على مدى السنوات العشر المقبلة بقيمة 80 مليار دولار. بدورها، حذرت تقارير اقتصادية غربية من أن يفضى إقصاء روسيا من نظام «سويفت»، إلى الإضرار بشركائها التجاريين، عبر إرباك حركة المدفوعات الدولية، وزعزعة استقرار الأسواق المالية، تزامنا مع تفاقم الموجة التضخمية العالمية. وبينما يتسنى لواشنطن الذهاب بعيدا فى معاقبتها روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجارى بين البلدين، يستعصى على الاتحاد الأوروبى مجاراتها على هذا الدرب. فعلاوة على كونه الشريك التجارى الأول لموسكو، سيصعب على دوله الفقيرة مثل رومانيا واليونان تقليص تعاملاتها الاقتصادية مع روسيا، بغير ميكانيزمات تعويضية من بروكسيل. ولم يحل الاصطفاف الغربى اللافت فى مواجهة روسيا دون تحفظ دول أوربية على عزلها عن نظام «سويفت». فبينما ارتأت المجر أن الاتحاد الأوروبى يلحق الضرر بنفسه من خلال فرض عقوبات على روسيا، إذ سيضطر إلى تعويض مزارعيه، جراء تضرر صادراتهم إليها، اعتبرت سلوفاكيا العقوبات ضد روسيا، إجراء «عديم الجدوى». فى الأثناء، استبعدت دوائر رسمية أمريكية فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسى، مخافة التضخم، وإلحاق الأذى بأسواق الطاقة العالمية والمستهلكين الأوربيين والأمريكيين.
منذ استخدمته واشنطن لأول مرة ضد كوبا مطلع ستينيات القرن الماضى، سلاحا تقليديا يستهدف الأفراد، والبنوك، والمؤسسات، والكيانات الاعتبارية، يكاد يتفق الخبراء على تواضع جدوى العقوبات غير الذكية. فلطالما تمخضت عن تحديات أساسية: كالتدرج فى فرضها، والتنسيق مع شركاء، علاوة على كونها سلاحا ذا حدين، بحيث تطال انعكاساتها السلبية الموجعة من قاموا بفرضها، فيما يتفاقم تأثيرها على الشعوب دون الأنظمة. فرغم الأضرار التى تلحقها العقوبات الحالية بالاقتصاد الروسى، تئن الدول التى فرضتها من تداعياتها. حيث أشهر أكثر من نصف الشركات البريطانية لتوزيع الغاز والكهرباء للبيوت والمؤسسات إفلاسه بسبب ارتفاع الأسعار. وفى ألمانيا، أسفر وقف ترخيص خط أنابيب «نورد ستريم2، عن تكبيد الشركات الأوربية الشريكة لـ «جازبروم» الروسية فى المشروع خسائر هائلة، كما ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 40%، والكهرباء بنسبة 6.6%، وتجاوز خام برنت القياسى للنفط العالمى 100 دولار للبرميل، وزاد سعر الفحم الأوروبى بنسبة 7.9%. وفى أوكرانيا، هبطت العملة الوطنية (هريفنا) إلى أدنى مستوى لها منذ العام 2015.
برغم ما تولده من ضغوط، لا تخطئها العين. تعجز آلية العقوبات عن إجبار الحكومات على تغيير سياساتها. فشأنها شأن الفيروسات،التى تكتسب مناعة ضد الأدوية واللقاحات بمرور الوقت، غالبا ما يؤدى استمرار العقوبات، إلى تمكين الدول المعاقَبة من التحايل عليها، والتعايش معها. لذا، شككت موسكو فى مشروعية العقوبات، متوقعة أن تكبد الأوروبيين ألفى يورو لكل ألف متر مكعب من الغاز، وتنال من رفاهية المواطن الغربى، وتضر بالنظام الاقتصادى العالمى. وبعدما لوحت بتبنى تدابير مضادة أكثر إيلاما، أكدت موسكو فشل العقوبات فى إجبارها على التخلى عن حماية مصالحها، فلن تزيدها إلا ابتكارا، وصمودا، وقدرة على دحرها. وإذ يفطن بوتين لتأثير العقوبات على اقتصاده، فإنه يؤمن بأن من ابتغى عظيما يضحى بعظيم. ومن ثم، لم تمنعه من غزو جورجيا عام 2008، ثم احتلال شبه جزيرة القرم فى2014، وصولا إلى اجتياح أوكرانيا اليوم. وفى حين يستثقل الغرب مساحة روسيا الشاسعة، بما تعج به من ثروات طبيعية طائلة، يصر القيصر على المضى قدما فى إرساء دعائم نظام دولى متعدد الأقطاب، وتوسيع الحزام الأمنى لبلاده بضم المناطق التى يقطنها الروس.
فى مؤلفه القيم «العسل والنحل»، يُسلم المفكر الاستراتيجى الأمريكى، ريتشارد هاس، بأن العقوبات تولد، بصورة شبه دائمة، صعوبات اقتصادية، لكنها تعجز عن تعديل سلوك البلدان المستهدفة. بل إنها غالبا ما توجع أبرياءها من الفقراء ودوائر الأعمال والمصالح التجارية. وقد تتمخض العقوبات عن نتائج غير مقصودة، مثل تقوية الأنظمة المارقة وإشاعة الفوضى والإضطرابات داخل بلدانها وفى محيطها. الأمر الذى يجعل الاعتماد على الأدوات الجزائية العقابية وحدها، بوصفها استراتيجية فاعلة فى السياسة الخارجية، ضربا من الوهم.
على أية حال، تبقى استراتيجية «الردع من خلال العقوبات»، أفضل الخيارات الغربية الممكنة فى التعاطى مع استفزازات موسكو. فلقد ساعد الغزو الروسى لأوكرانيا على ترميم أواصر التلاحم الأوروأطلسى، وتعزيز وشائج التحالف الديمقراطى العالمى الموسع فى مواجهة الصعود الصينى الروسى المتناغم. ومن شأن إلحاق الأذى بالاقتصاد الروسى، الذى يعانى انكشافا بنيويا، كونه ريعيا، تشكل صادرات المواد الخام نحو 20 %من إجمالى ناتجه المحلى، و40 %من إيراداته، تحريك الغضب الشعبى الداخلى ضد بوتين، عساه يضطره إلى التراجع، أو ربما مغادرة السلطة.
تبقى خيارات الغرب التصعيدية فى مواجهة روسيا حذرة متدرجة، تجنبا لاستثارة نزعات القيصر الانتقامية المكبوتة. كما يشكل الحفاظ على قوة روسيا واستقرارها، ولو بمقدار، وقاية من تفجر زلزال إثنى وقومى، تعبر هزاته الارتداداية المفجعة، حدود الفضاء السوفييتى السابق، لتدك حصون الغرب، وتقض مضاجع العالم أجمع. ورغم تضاؤل فعاليتها، تظل العقوبات وسيلة مثلى لتكبيد موسكو أفدح الخسائر لقاء مغامراتها العسكرية. فى الوقت الذى تعد صمام أمان للحيلولة دون انزلاق الأزمة الأوكرانية، أو سواها، إلى مآلات مأسوية. فإما حرب عالمية ثالثة مروعة، أو مواجهة نووية مجنونة.