سفينة التعليم والإبحار نحو المستقبل
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 فبراير 2023 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
التعليم ما زال وسيظل على الدوام أحد أخطر المسائل فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل، لأنه يتعلق ببناء الإنسان، وهذا الوصف قد يراه البعض وصفا بلاغيا، إلا أن حقيقة الأمر أن التعليم له بالفعل من الأهمية والخطورة ما يمكن أن ينتج عنه من الفشل الذريع ما يقوض الحاضر ويطيح بالمستقبل، أو أن يتحقق من خلاله من التقدم والإبداع ما يدفع الوطن نحو الازدهار والتقدم والقــوة.
إن تعداد طلاب وطالبات مدارس مصر الذى يتجاوز 25 مليون هو دون شك مسئولية هائلة فهذا العدد يعادل سكان عدة دول مجتمعة، وهؤلاء يتطلبون من الرعاية والتنظيم والاهتمام قدرا عظيما من الجهد سواء من الدولة أو من الآباء والأمهات، وهذا حقهم وفى ذات الإطار فهذا واجبنا وتلك مسئوليتنا.
وبقدر ما قد ينظر الكثيرون إلى هذا التعداد على أنه حمل ثقيل، إلا أننا ننظر إليه على أنه مورد أصيل، فما زالت وستظل القوة الحقيقية لمصر كامنة فى الإنسان المصــرى، وهى قـــــوة جينية كامنة تنتقل من جيل إلى جيل، هذه القـــوة جوهرها هو العقل الذى يعد التعليم جوهريا فى تكوينه وإمداده بالعلوم والمعارف.
وفى ذات الإطار يأتى متوازيا مع التعليم عملية بناء الشخصية وبث القيم وتكوين كيان هذه البراعم الصغيرة المتمثلة فى التربية، وهى عملية مشتركة بين المدرسة والبيت اللذين يتكاملان معا فى مهمتهما المقدسة فى بناء الإنسان النافع لنفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه.
إن المدرسة هى الركن الركين وحجر الزاوية فى العملية التعليمية والتربوية، ولا تربية ولا تعليم دون مدرسة، مثلما هو الأمر أن لا إنتاج دون مصنع، ولا زرع دون مزرعة، وكل ما عدا ذلك هو تحصيل حاصل فى منتجه وجودته.
منذ الصباح الباكر يتوجه ملايين الطلاب والطالبات فى كافة أنحاء مصر إلى مدارسهم، ومع نهاية اليوم الدراسى يعود هؤلاء إلى بيوتهم حيث يفترض أن يستريحوا ثم يقوموا باستذكار دروسهم وعمل واجباتهم، ثم ينالوا قدرا مناسبا من الترفيه والرعاية، ويستعدوا لليوم التالى عقليا ونفسيا وجسمانيا.
• • •
لكن ما يحدث على أرض الواقع يختلف تماما عما عرفناه عن اليوم الدراسى فى حياتنا، فاليوم الدراسى الحالى تبدأ فيه مناوبة الصباح بالذهاب إلى المدرسة والعودة منها، تعقبها مناوبة أخرى فى المساء، يعيد فيها ملايين الطلاب والطالبات النزول من بيوتهم متجهين إلى المراكز التعليمية الخاصة أو المجموعات الخاصة أو بيوت زملائهم حيث يتلقون دروسا خصوصية عادة ما يقدمها لهم المدرس المفترض أنه قدمها لهم فى المدرسة صباحا.
والمسألة هنا لها جوانب وتداعيات خطيرة، فالطالب أو الطالبة بدلا من أن يتجه بانتباهه إلى المدرس أثناء الحصة الدراسية بالمدرسة، سيتحول عنه اعتمادا على أنه سيحصل على شرح الدرس لاحقا من خلال المدرس الخاص فى المركز التعليمى أو غيره، وبتكرار ذلك من مادة دراسية إلى أخرى، يكون الدور العلمى للمدرسة قد تلاشى، ويصبح ذهاب ملايين الطلاب إلى المدارس مجرد أداء واجب لقضاء اليوم ولاستكمال النصاب القانونى لعدد أيام الحضور اللازمة للتقدم إلى الاختبارات.
والطامة الكبرى أن الكثير من الأسر أخذت تدريجيا فى الاقتناع بأن دور المدرسة بات هامشيا، وأخذ العديد من أولياء الأمور فى الإيعاز لأبنائهم وبناتهم بالتغيب عن المدرسة وكسب الوقت فى المذاكرة بالبيت ولا سيما فى سنوات الشهادات، حيث لا توجد أعمال سنة، وحيث تتجاهل العديد من إدارات المدارس ولا سيما الخاصة منها مسألة الرقابة على الحضور والغياب.
وذلك الأمر الخطير لا تقتصر تداعياته على الجانب التعليمى والتربوى، بل تمتد إلى الموارد المهدرة فى مئات الملايين من الجنيهات التى يدفعها أولياء الأمور كمصروفات مدرسية، ولا سيما فى مدارس التعليم الخاص، ثم يعودوا من جديد ليدفعوا مثلها أو أكثر منها فى منظومة الدروس الخصوصية، الأمر الذى يشكل ضغطا شديدا على ميزانية الأسر فى ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.
من جهة أخرى، يجدر بنا أن نتساءل عن التكلفة الاقتصادية لتشغيل عشرات الآلاف من السيارات وحافلات المدارس التى تحمل يوميا قرابة 25 مليون طالب وطالبة ذهابا وعودة إلى مدارسهم، مستهلكة الوقود وزحمة الطرق والشوارع دون جدوى أو فائدة حقيقية، إذ إن الذهاب إلى المدرسة بات للملايين من أبنائنا وبناتنا مسألة شكلية إجرائية، بعد أن باتت العملية التعليمية تتم خارج المدرسة وليس داخلها، ثم تعود دورة النقل والمواصلات لعدة ملايين من الطلاب من جديد فى مناوبة النصف الثانى من اليوم للدروس الخصوصية، فتفتح بند نفقات جديدا على الأسرة، فضلا عن تحميل منظومة النقل جهدا مزدوجا خلال اليوم.
• • •
لكن الأخطر من ذلك كله هو الحالة الصحية والنفسية والعقلية لهؤلاء التلاميذ والطلاب وهم يدخلون فى أتون يوم طويل مجهد يبدأ منذ السادسة والنصف صباحا إلى المدرسة ثم العودة منها عصرا، ثم النزول من جديد فى المناوبة المسائية لتلقى الدروس الخصوصية والعودة إلى المنزل من جديد، وقد خارت قواهم وأجهدت أجسامهم، فيرتمون على أسرتهم فى نوم عميق وإن هى إلا سويعات قليلة يتم بعدها إيقاظهم للدخول فى صراع يوم جديد.
ماذا تبقى من اليوم إذن لذلك الإنسان الصغير؟ هل تبقى له ما يسمح براحة جسده وسلامة نفسه وصفاء ذهنه؟ هل تبقى له من الوقت ما يسمح بأداء وعمل واجباته واستذكار دروسه؟ هل تبقى له من الوقت ما يسمح له بالتواصل مع أفراد أسرته؟ هل تبقى له من الوقت ما يسمح له بالذهاب إلى النادى لممارسة بعض الرياضة؟ والسؤال الأهم بعد كل ذلك هل سيتبقى له فى قلبه ما يحب به العلم والمعرفة بعد ذلك اليوم الملحمى من التعب والإجهاد والضغط؟
قد يجادل البعض بأن التعليم مستمر والمدارس تعمل والأمور تسير، وأولادنا وبناتنا يستذكرون وينتقلون من عام دراسى إلى عام دراسى آخر، ويحصلون على شهاداتهم بأعداد كالملايين ويلتحقون بالجامعات، وتستمر الحياة، وتكون الإجابة على هؤلاء بنعم، وهؤلاء أبطال بأن تمكنوا من تحقيق ذلك فى ظل تلك الظروف الصعبة العسيرة.
لكن هل هذا هو المعيار؟ أن يكون الهدف هو النجاح فى الاختبارات وعبور الامتحانات، وأن يكون ذلك بتكلفة باهظة من الصحة العقلية والنفسية والجسمية للإنسان الصغير، وأن يكون ذلك بنفقات باهظة تثقل ميزانية الأسر المحدودة منها قبل المتيسرة، وأن يكون ذلك بتحول المدرسة إلى مجرد مكان للتسجيل والالتحاق وإجراء الاختبارات، وأن يكون ذلك بفقدان الدور التربوى والقيمى والثقافى والرياضى والمجتمعى للمدرسة، وتحول الأمر برمته إلى هدف أجوف فى ذهن الأسرة والطالب وهو النجاح الإجرائى فى اجتياز الاختبارات.
إن قضية التربية والتعليم هى قضية استراتيجية، وهى قضية لا تنقضى وموضوع لا ينتهى، فهى تتعلق بأثمن ما لدى الوطن وهو الإنسان، وبناء الإنسان هو عملية مستمرة لا نهاية لها، وكذلك التربية والتعليم هما عمليتان مستمرتان من البناء والتقييم والتعديل والتحسين المستمر، لمواجهة التحديات والاستعداد للمستقبل، فهما منطلق التقدم الاقتصادى والصناعى والإنتاجى والإدارى، وحتى القوة العسكرية بات جوهرها هو العلم والتكنولوجيا وبناء الإنسان.
ولا يمكن بأى حال من الأحوال الحديث عن بناء الإنسان دون ذكر المدرسة، وبدون مدرسة لن يوجد تعليم، حتى وإن احتج البعض بظهور ما يسمى بالتعليم عن بعد والتعليم باستخدام الوسائط والتطبيقات الإلكترونية، نوافقه فى ذلك ولكن إلى حدود معينة وبشروط معينة، فهذه جميعها وسائل مساعدة لا تنفى ولا تحل محل الدور العظيم للمدرسة.
مدارس مصر طوال تاريخها لم تكن مجرد قاعات دراسية، بل كانت التربة الخصبة الغنية التى نشأ فيها أعظم العلماء والمفكرين، وأشهر الكتاب والفنانيين والرياضيين، وأفضل القادة والوزراء والسياسيين، فلنبعث المدرسة من جديد ونحيى دورها الأصيل فى بناء الإنسان المصرى.