كيف خسر العرب أفريقيا؟

محمد السماك
محمد السماك

آخر تحديث: الأحد 28 مارس 2010 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

 عرفت أفريقيا عصرا ذهبيا إسلاميا قبل موجات الاستعمار الغربى. كانت الثقافة الإسلامية تنير القارة، وكانت مالى وعاصمتها تمبكتو عاصمة لهذه الثقافة.

فبعد سقوط غرناطة هاجر من نجا من العلماء المسلمين إلى شمال أفريقيا والمشرق العربى، وترافقت هجرتهم مع قيام منارات علمية حضارية فى هذه المناطق. كانت تمبكتو واحدة من تلك المنارات. فقد عُثر مؤخرا فى كهوف تطمرها الرمال وفى بقايا بيوت مصنوعة من الطمى والوحل، على حوالى نصف مليون كتاب ومخطوط يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من ألف عام. كلها باللغة العربية!.. وتتناول هذه الكتب إلى جانب الشئون الدينية، مختلف أنواع علوم الحساب والفلك والطب والفلسفة والشعر والأدب.

ترجم المثقفون العرب الآثار الفكرية والأدبية والعلمية للعلماء الأفارقة التى كتبوها بلغاتهم المحلية، وحفظوا بذلك التراث الأفريقى ــ كما فعلوا مع التراث اليونانى. ولكن الموجات الاستعمارية التى توالت على أفريقيا أدّت إلى تدمير هذا التراث، وإلى طمر ما بقى منه تحت الرمال.
لقد بلغ الازدهار العلمى فى تمبكتو أوجَّه فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فى ذلك الوقت كان عدد سكان المدينة يزيد على مائة ألف، أى أكبر من معظم الحواضر الأوروبية فى ذلك الوقت..وكانت مالى تشكل جسر تواصل واتصال بين شمال أفريقيا وجنوبها، وبين شرقها وغربها.

ويذكر المؤرخون انه عندما تعرّضت تمبكتو فى أواخر القرن السادس عشر إلى اجتياح عسكرى مغربى، حاول علماؤها رد الاجتياح بالتى هى أحسن (بالسياسة). فاجتمعوا إلى قائد الجيش المغربى وقالوا له: «لا يوجد فى القرآن الكريم أىّ نصّ يسمح لقوات إسلامية باجتياح مجتمع مسلم والهيمنة عليه بالقوة».

ربما قالوا ذلك عن ضعف، ولكن من الثابت أن الثقافة الإسلامية فى تمبكتو كانت فى ذلك الوقت ثقافة اعتدال وانفتاح وسماحة، وهو ما تؤكده المخطوطات الكثيرة التى تمّ العثور عليها، ومن بينها مخطوطات يهودية. فقد اتخذ اليهود من تمبكتو ــ كما اتخذوا من الحواضر الإسلامية العديدة الأخرى (غرناطة ــ دمشق ــ بغداد ــ القاهرة ــ اسطنبول) ــ واحات آمنة لهم. حتى إنهم أقاموا فيها كنيسا ظلّ قائما حتى القرن التاسع عشر، وقد أزال معالمه المستعمرون الأوروبيون، فى ذروة موجة اللاسامية التى كانت تعصف فى ذلك الوقت بالمجتمعات الأوروبية المختلفة.

قضت حركات الاستعمار الغربى التى اجتاحت أفريقيا على تلك المنارات الحضارية حتى أصبحت أثرا بعد عين. وفرض المستعمرون ثقافاتهم ولغاتهم مما أدى إلى ضياع الهوية الأفريقية. ورغم ذلك وبعد انحسار الاستعمار الغربى وقيام الكيانات الوطنية الجديدة على قاعدة الاستقلال، بدأ العصر الذهبى العربى فى أفريقيا. فالشعوب الأفريقية كانت تعبّر عن رفضها للاستعمار بالانفتاح على الشعارات التحررية التى رفعتها الدول العربية ــ الأفريقية فى الشمال من مصر حتى المغرب، ومن السودان حتى موريتانيا.

***

إلا ان هذه الدول الأفريقية وكانت حديثة عهد بالاستقلال، كانت تراهن فى الوقت ذاته على أمرين أساسيين. الأمر الأول اقتصادى، وهو التوظيفات الاستثمارية العربية من عائدات النفط. خاصة بعد أن شهدت العائدات النفطية فى السبعينات من القرن الماضى (بعد الحرب العربية ــ الإسرائيلية فى رمضان1973) قفزة كبيرة. ولكن الذى حدث لم يكن فى مستوى الآمال الأفريقية سواء من حيث حجم الاستثمارات العربية، أو من حيث الميادين التى استثمرت فيها..أو من حيث استمرارها. وأمام شحّ الاستثمارات العربية، لجأت الدول الأفريقية إلى المصادر الأخرى، بما فيها إسرائيل.

أما الأمر الثانى فهو سياسى.. فقد راهنت الدول الأفريقية على الدعم المعنوى العربى لقضاياها فى المحافل الدولية والإقليمية، ولكن الصراعات والخلافات العربية ــ العربية انعكست سلبا على هذا الدور، وعلى صورة العالم العربى فى أفريقيا، وكذلك على التعاون العربى ــ الأفريقى.

وبدلا من الدعم المنشود للقضايا الأفريقية، تحوّلت القضايا العربية إلى عبء ثقيل على القارة وعلى تطلعاتها الوحدوية.. من قضية استقلال موريتانيا التى اعتبرها المغرب انفصالا عنه،إلى قضية الصراع المغربى ــ الجزائرى حول الصحراء الغربية والمستمر حتى اليوم، إلى الصراع الليبى ــ التشادى، فالصراع السودانى ــ التشادى، ثم الصراع الإثيوبى ــ الصومالى والذى تتواصل فصوله من خلال الحرب الأهلية التى تمزق الصومال. وكذلك من انفصال إريتريا عن إثيوبيا إلى الحرب فى جنوب السودان..والآن فى دارفور وانعكاسات الحربين على العلاقات العربية ــ الأفريقية، والأفريقية ــ الأفريقية.

حتى الصراع العربى ــ الإسرائيلى انعكس سلبا على أفريقيا باعتبار أن مصر كبرى الدول الأفريقية وأشدّها تأثيرا عليها، كانت ــ ولم تزل ــ طرفا مباشرا فى هذا الصراع (حروب 1948، 1956، 1967، و1973).

ومع تراجع العاملين الأساسيين، الاقتصادى المالى، والسياسى المعنوى، تواجه أفريقيا اليوم مضاعفات تراجع عامل آخر كان يمكن أن يلعب دورا إيجابيا وبنّاء فى المحافظة على متانة العلاقات العربية ــ الأفريقية، وهو العامل الدينى. فالإسلام هو الدين الأول فى القارة. وهو الأوسع انتشارا من أقصى الشمال إلى عمق القارة، ومن المحيط الأطلسى ــ السنغال، حتى المحيط الهندى ــ الصومال.

ولكن الاستخدام السلبى للدين على يد حركات التطرف، وسوء توظيفه فى خلافات محلية قبَلية أو حتى عائلية، داخل أفريقيا (وخارجها) أوجد حالة من القلق عطّلت دوره التاريخى فى وقت أحوج ما تكون فيه أفريقيا إلى هذا الدور.

ولأن السياسة، كالطبيعة، لا تعرف ولا تعترف بالفراغ، فقد سارعت إسرائيل إلى ملئه. فقد استطاع الإسرائيليون اختراق حتى المجتمعات الإسلامية ــ الأفريقية التى كانت تنظر إلى إسرائيل نظرة رفض واستعداء. ومن مؤشرات ذلك أن إسرائيل حصلت على موافقة حكومة السنغال، وكذلك على موافقة بلدية مدينة توبا لإقامة شبكة لتوزيع مياه الشرب ولمعالجة مياه الصرف الصحى. ومن المعروف عن مدينة توبا أنها معقل الحركة الصوفية فى السنغال وفى غرب أفريقيا كلها.

ومن هذه المؤشرات كذلك، أن نيجيريا، أكبر دولة من حيث عدد السكان فى أفريقيا وبأكثرية إسلامية، تستورد من إسرائيل معظم حاجتها من الأسلحة، وقد بلغت قيمة وارداتها من الأسلحة الإسرائيلية مؤخرا نصف مليار دولار.

وتتمثل أهم معالم التغلغل الإسرائيلى فى أفريقيا فى القلق الأفريقى من العمليات التى تقوم بها حركات التطرف الإسلامى من جهة أولى، وفى لجوء العديد من الدول الأفريقية إلى جهاز المخابرات الإسرائيلى (الموساد) للحصول على المعلومات التى تساعدها على مواجهة هذه العمليات من جهة ثانية. ومن هذه الدول إثيوبيا وكينيا وأوغندا وحتى نيجيريا.

ومن خلال ذلك، تمكّنت إسرائيل ليس فقط من اختراق الأجهزة الأمنية فى هذه الدول، ولكنها فوق ذلك أصبحت قادرة على توجيه هذه الأجهزة لضرب الحركات الإسلامية سواء كانت حركات متطرفة أو حركات دعوية معتدلة.

كما تمكّنت من أن تطرح نفسها عاملا أساسيا للمحافظة على الأمن والاستقرار فى أفريقيا.. وعلى تشويه صورة الإسلام على أنه عامل إرهاب وتخريب!

ومن أجل تعزيز ذلك قام وزير خارجية إسرائيل أفيجدور ليبرمان بجولة شملت عددا من الدول الأفريقية، بما فى ذلك الإسلامية منها. ورغم أن ليبرمان مكروه ومنبوذ عالميا حتى فى الغرب، فقد لقى حفاوة وترحيبا فى هذه الدول على قاعدة الخدمات التى يقدمها جهاز الموساد. وشملت جولة ليبرمان كلا من غانا ونيجيريا فى غرب أفريقيا، وإثيوبيا وأوغندا وكينيا فى شرقها..وينوى ليبرمان القيام بجولة ثانية تشمل العديد من الدول فى وسط وجنوب القارة.

ولا تعرف هذه الدول منذ زمن طويل زائرا عربيا على مستوى رفيع! ولكنها تعرفت على زائر إسلامى جديد هو الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد.. فعندما زار السنغال طرح عرضا إيرانيا لمدينة توبا بدلا من العرض الإسرائيلى. وكان طبيعيا أن ترحب المدينة والدولة السنغالية بالعرض. وقد أقامت إيران فى السنغال مصنعا لإنتاج السيارات، وهى بصدد إقامة مصنع آخر لإنتاج الآليات الزراعية وحتى بناء مصفاة للنفط.

وشملت جولة أحمدى نجاد كذلك غامبيا ونيجيريا. ومن المعروف ان إيران أقامت فى السودان مصنعا لإنتاج الأسلحة والذخيرة لتعزز معاهدة التعاون العسكرى بين الدولتين. وعندما زار الرئيس نجاد كينيا حرص على زيارة مدينة مومبسا ذات الأكثرية الإسلامية. وقد اتفق مع الرئيس الكينى على فتح خط جوى بين البلدين.. وعلى تصدير 4 ملايين طن سنويا من النفط الإيرانى بأسعار تشجيعية مخفّضة إلى كينيا. وحصلت أوغندا على وعد إيرانى جديد ببناء مصفاة للنفط.

من هنا، فإذا كان الاستعمار الغربى قد قطع أوصال الحضور الإسلامى فى أفريقيا، فإن الغياب العربى فى القارة فتح الأبواب أمام الهجمة الإسرائيلية، وأطلق شرارة التنافس الإيرانى ــ الإسرائيلى لملء الفراغ

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved