رؤية كيسنجر الواقعية لأزمة أوكرانيا
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الجمعة 28 مارس 2014 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
رغم كبر سنه الذى تخطى التسعين عاما، يبقى هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى ومستشار الأمن القومى الأسبق، رمزا من أعلام التيار الواقعى فى العلاقات الدولية. ولم يعد يتحدث كيسنجر كثيرا عن القضايا العالمية المختلفة، إلا أنه عندما يتحدث الرجل، الذى وإن كرهناه لأسباب تتعلق برؤيته للصراع العربى ــ الإسرائيلى ولما ورط فيه الرئيس السابق أنور السادات طوعا، ينتبه الجميع لما يقوله.
وتحدث وكتب كيسنجر أخيرًا عن الأزمة فى أوكرانيا. ويمثل فكر كيسنجر المدرسة الواقعية الأمريكية التى ترى فى القوة محركا أساسيا ورئيسيا للعلاقات بين الدول. لهذا لا تترك تعليقاته أو تبريراته أى مساحة للقيم والمبادئ، وتركز فقط على المصالح والممكن.
تفهم كيسنجر الطريقة التى رأى بها الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، تطور الأحداث والاضطرابات بين الحكومة والمعارضة داخل أوكرانيا، تلك الدولة التى يجمعها بروسيا الكثير من التاريخ المشترك والمورث السكانى والاجتماعى الكبير والمعقد. وقال كيسنجر «أعتقد أن ما يراه بوتين فى العاصمة الأوكرانية كييف هو تجربة لما تريد واشنطن له أن يحث فى روسيا». ولفت كيسنجر النظر إلى أن بوتين يعتقد أن تفكك الاتحاد السوفييتى كان كارثة تاريخية كبيرة، لذلك فإن من الواضح أن الجزء الأكثر حساسية للروس كان خسارة دولة بحجم أوكرانيا التى يقترب عدد سكانها من 50 مليون نسمة. لذا يرى أنه كان على أوكرانيا أن تصبح جسرا يربط بين الغرب وروسيا بدلا من أن تصبح منطقة نفوذ وتعارض المصالح بينهما. ونصح كيسنجر الغرب القبول بأن أوكرانيا لن تكون أبدا بالنسبة لروسيا مجرد دولة أجنبية وذلك انطلاقا من التاريخ الروسى الطويل هناك وتحديدا فى العاصمة الأوكرانية كييف. يعتنق سكان أوكرانيا فى شرق البلاد إلى حد كبير المذهب الأرثوذكسى ويتحدث معظمهم الروسية، فى حين يعتنقون فى غرب البلاد المذهب الكاثوليكى إلى حد كبير ويتحدثون الأوكرانية. وإن أى محاولة من هذين الطرفين فى شرق وغرب البلاد للهيمنة على الطرف الآخر، من شأنه أن يؤدى فى نهاية المطاف إلى نشوب حرب أهلية، أو إلى تفكك البلاد.
•••
رأى كيسنجر أنه يحق لأوكرانيا اختيار الجهات الاقتصادية والسياسية التى تتعامل معها بما فى ذلك أوروبا، وأن تكون حرة فى اختيار أى حكومة متوافقة مع إرادتها الشعبية، وإنه لا ينبغى لكييف الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى (الناتو). فى الوقت نفسه رأى أنه يجب على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا كاملة على شبه جزيرة القرم. أكد كيسنجر أن قيام روسيا بضم القرم يتعارض مع قواعد النظام العالمى القائم حاليا. ولكن ينبغى أن يكون من الممكن وضع العلاقة بين القرم وأوكرانيا على أسس أقل توترا. ولتحقيق هذه الغاية يتعين على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على القرم، وتقوم أوكرانيا فى نفس الوقت بتعزيز وضع الحكم الذاتى فيها بإجراء انتخابات بوجود مراقبين دوليين. كما ينبغى أن تتضمن هذه العملية إزالة أى غموض حول وضع أسطول البحر الأسود فى سيفاستوبول. وأكد كيسنجر أن على الرئيس الروسى بوتين إدراك أن الخيار العسكرى سيؤدى إلى حرب باردة جديدة، وعلى الولايات المتحدة التوقف عن اعتبار أن على روسيا الخضوع لقواعدها ولما تراه من سيناريوهات فى هذه المنطقة من العالم، خاصة مع عدم فهم الأمريكيين للتاريخ الروسى.
•••
عقب ضم الرئيس الروسى لشبه جزيرة القرم، ركزت كتابات الخبراء الأمريكيين على عرض الخيارات المتاحة أمام إدارة الرئيس باراك أوباما، ولخصت البدائل فى فرض عقوبات على القيادات الروسية، وتعهدات بمزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية. وأسعد قرار استبعاد روسيا من مجموعة الدول الثمانى الكثيرون من أنصار ضرورة عقاب روسيا. ويرى هؤلاء الخبراء أن بوتين يعود بروسيا للوراء، وأنه تسبب فى محو ما حققه لبلاده خلال السنوات الماضية.
على النقيض من ذلك يدرك أنصار المدرسة الواقعية أن أكثر ما يمكنهم الحلم به هو أن يتوقف الطموح الروسى فى الأراضى الأوكرانية عند حدود شبه جزيرة القرم. وتدرك أيضا توازن القوة الحقيقى مع روسيا، تؤمن كذلك أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تغامر عسكريا من أجل أوكرانيا. تعتمد أوروبا على الغاز الروسى بنسبة 34% من حاجاتها، فى حين تعتمد أوكرانيا على غاز روسيا بنسبة تتعدى الثلثين. لذا من الصعوبة بمكان هزيمة روسيا أو التضييق عليها استراتيجيا. كل ما تستطيع أمريكا فعله الآن هو مراجعة استراتيجيتها تجاه التعامل مع الأزمات غير المتوقعة.
ويرى الواقعيون أن على الإدارة الأمريكية الانتباه لظاهرة التراجع الأمريكى فى مقابل تقدم الدور الروسى على المستوى الدولى كما ظهر فى حالة الملف السورى والإيرانى. وتدرك هذه المدرسة أن الضغط المتزايد على روسيا سيدفعها بكل تأكيد على الاستثمار فى علاقاتها المتزايدة مع العملاقين الصينى والهندى.
•••
لم يخرج كيسنجر بعد برأيه فيما يجب أن تقوم به واشنطن بعد التصعيد العسكرى الروسى خلال الأيام الأخيرة. فهل سيفاجئنا كيسنجر ويدعو لضرورة حل حلف الناتو، ذلك الحلف الذى ما كان له أن يستمر بعد سقوط الاتحاد السوفييتى وسقوط حلف وارسو معه، وهو ما دعا الناتو للبحث دائما عن أعداء جدد يواجهها أو البحث عن دول مجاورة يضمها إليه.