أستاذ «حمام»
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 أبريل 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
أسباب كثيرة تجعل خبر موت فنان الخط العربى حمام الأسبوع قبل الماضى خبرا صادما لمحبى الخط، أهمها أن الرجل لم يجد وداعا إعلاميا يليق بدوره أو بقيمته الفنية، ومعظم الأخبار التى نشرت عنه اعتمدت على المعلومات، ولم تتطرق إطلاقا لقيمته الفنية الكبيرة كأحد «أسطوات» هذا الفن البارزين.
صحيح أن الملتقى الدولى للخط العربى الذى تنظمه وزارة الثقافة، ويشرف عليه الفنان محمد بغدادى، قام مشكورا بتكريم حمام، ونظمت له الوزارة معرضا قبل سنوات ضمن فاعليات إحدى دورات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية، إلا أنه عاش فى الظل رغم الشهرة العالمية التى حازها، وظل دكانه فى عابدين مقصدا لممثلين عن رؤساء دول وأمراء اهتموا بتكريمه نظير تكريمهم بكتابة أسمائهم بتوقيعه الشهير.
وجاء موت حمام ليحرم القائمين على إعداد ملف اعتماد الخط العربى أمام اليونسكو ضمن قوائم التراث اللامادى من خبرة الرجل كمعلم للخط، فقبل شهرين فقط أخبرتنى الدكتورة نهلة إمام التى تقوم على تمثيل مصر فى الاجتماعات التشاورية التى دعت لها السعودية لهذا الغرض أنها استشارات «حمام» فى الكثير من النقاط عند إعداد الملف لتحيط بتصورات العاملين فى المجال، ولتفادى ما أكده بعض الفنانين بشأن الخوف من التورط فى الخلط بين الخط كفن والخط كحرفة.
ولعل الميزة الرئيسية فى إنتاج حمام أنه يجمع بين الجانبين، وأعتبر نفسى من المحظوظين لأن معرفتى بإنتاجه مرت من «فلتر» فنان ينتمى لجيل آخر هو الراحل حامد العويضى الذى كان واسع المعرفة بتاريخ الخط ومدارسه المختلفة فعلمنى كيف أشاهد أعماله من الزاوية التى يمكن من خلالها إدراك سر تميز حمام.
مات المعلم الذى كان يتمنى لو تمكن من أداء رسالته الأخيرة فى إقناع المسئولين بتنظيم احتفال بمئوية مدرسة تحسين الخط العربى التى تم إنشاؤها فى مصر قبل مائة عام تحت اسم مدرسة الخطوط الملكية، واستجلب لها الملك فؤاد أبرز فنانى الخط آنذاك، ومنهم الفنان التركى الشهير عزيز الرفاعى.
وفى مقال نشرته مجلة الهلال قبل ربع قرن تقريبا بعنوان: «جماليات الخط العربى أمام مخاطر الكمبيوتر» يخبرنى العويضى عن الظروف التى رافقت تأسيس هذه المدرسة ودورها فى حماية فن الخط وما أحدثته من نقاشات تعكس وجها آخر للصراع حول هوية مصر.
ويروى عن البعض أن الخطاطين المصريين عز عليهم أن يحضر خطاط تركى لإدارة المدرسة، فكتبوا للملك منزعجين، فاحترم إرادتهم، وكلف الشيخ الرفاعى بكتابة مصحف خاص له، محفوظ الآن بالمتحف الإسلامى بالقاهرة، فى حين تم تكليف الخطاط محمد بك جعفر بكتابة مصحف المطبعة الأميرية، وبعدها سبكت الكتابة لتستخدم طباعيا، ثم أصدر الملك أمرا ملكيا بإنشاء مدرسة الخطوط على أن تتبع إدارة التعليم بديوان الأوقاف الخصوصية الملكية، وكانت ملحقة بمدرسة خليل أغا، وهى أول مدرسة للخط العربى على مستوى العالم، ونجح أساتذتها أمثال محمد رضوان، وعلى بدوى، ويوسف أحمد، فى إعداد جيل آخر ضم نجيب هواوينى، وسيد إبراهيم، وغزلان بك، ومحمد حسنى، ومحمد عبدالقادر، وعمل هؤلاء فى دور النشر والمؤسسات الصحفية التى كانت ترى فى وجود فنان خط ضمن هيئتها التحريرية أولوية لكتابة المانشيتات، وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل كعادته سباقا حريصا على وجود «حمام» فى الأهرام وبذل لإقناعه بالعمل نفس الجهد الذى بذله لإقناع كبار الكتاب بالعمل معه، وكذلك فعل أنيس منصور عند تأسيس مجلة أكتوبر؛ حيث أقنع حمام بالانتقال إلى دار المعارف إيمانا منه بأن الخط أحد مظاهر الهوية البصرية لأى مطبوعة جديدة.
ورغم الطفرات التى حققها استعمال الكومبيوتر فى الإخراج الصحفى لا تزال الأهرام تحافظ على وجود خطاط ضمن طاقمها التحريرى إلى اليوم؛ حيث يتولى الفنان محمد المغربى كتابة المانشيتات كما حافظت دار الهلال على توقيع الفنان محمد العيسوى لعدة سنوات، وتبقى الميزة الرئيسية لدى حمام كما روت عنه أحدث تلميذاته الفنانة هبة حلمى أنه بالإضافة إلى مهاراته الفنية كان يمتلك صفات المعلم، وقدراته فى فرز تلاميذه، واختبار مدى صلابة عودهم على تحمل مشاق هذه المهنة، فالخطاط الحاذق يصنع ورقه ويجهزه بنفسه لأنه يعتبر العلاقة مع اللوحة هى علاقة تداخل، وشأنه فى ذلك شأن الموسيقى الطامح إلى تصنيع آلته وتجهيزها، فالخطاط يبذل من روحه لتستمر مهنته.
مات حمام وسيعيش الخط العربى رغم كل مظاهر التدهور لا لشىء سوى أن فيه كل مظاهر «الغواية» التى دفعت ذات يوم أحد سلاطين العثمانيين للهوس بالخط وجعل تعليمه إحدى أولويات السلطنة، وهو سر آخر كشفه أورهان باموق فى روايته الفاتنة «إسمى أحمر»، وهو يتحدث عن النقش أو «صمت العقل وموسيقى العين».