مسئولية مصر تجاه السودان.. حقوق الجار الأقرب ومقتضيات أمننا القومي
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 28 أبريل 2023 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
إزاء استمرار الصدام العسكرى بين قوات الجيش وميليشيات الدعم السريع فى السودان، الجار الجنوبى الأقرب لنا إن لجهة الارتباط التاريخى والتداخل السكانى والتبادل الثقافى أو فيما خص الأمن المائى وأمن الحدود والعلاقات الاقتصادية والتجارية، يواجه صناع القرار فى مصر تحدى التعامل مع أزمة متعددة الأطراف ومركبة الأبعاد تهدد استقرار هذا البلد العربى والإفريقى المهم وأمن شعبه الشقيق مثلما تهدد العديد من مصالحنا الحيوية وتزيد من ضغوط الجوار المباشر على أوضاعنا الداخلية.
• • •
فى صدام طرفاه جيش نظامى وميليشيات مسلحة، لا تملك دولة وطنية مسئولة سوى أن تقف إلى جانب قوات الجيش صاحبة الاختصاص الحصرى لاستخدام القوة العسكرية وفقا للدستور والقانون فى مواجهة ميليشيات يمثل وجودها، وبغض النظر عن خلفياته التاريخية والمجتمعية والسياسية، خروجا مبدئيا على الدستور والقانون.
فالمآل الوحيد لازدواجية الجيش والميليشيات، وكما تدلل للأسف حالات عربية كارثية من لبنان والعراق إلى سوريا واليمن وليبيا، هو الحروب الأهلية الممتدة وانهيار مؤسسات الدولة وتفكك أواصر العيش المجتمعى المشترك والعنف الممنهج ضد المواطنات والمواطنين. إنهاء وجود الميليشيات والقضاء على ازدواجية حاملى السلاح النظاميين وغير النظاميين حماية للمواطن والمواطِنة والمجتمع والدولة هما، إذا، هدفا البداية فى صدام السودان الراهن.
ارتكب نظام الرئيس السابق عمر البشير (١٩٨٩ــ ٢٠١٩) العديد من الجرائم والخطايا فى حق الشعب السودانى، كان من بينها وأشدها وطأة تجاهل المطالب التنموية المشروعة للأقاليم ــ الأطراف البعيدة عن العاصمة ــ المركز الخرطوم وتشجيع تكوين الميليشيات المسلحة وتوظيفها لاضطهاد وترويع وإخضاع سكان أقاليم كدارفور فى الشمال الغربى وكردفان فى جنوب الوسط وغيرهما. وفى دارفور، رتب ذلك نشوب حرب أهلية فى ٢٠٠٣ بين القبائل ذات الأصول الإفريقية من سكان الإقليم التى تمردت على اضطهاد نظام البشير وبين مجموعات الجنجويد ذات الأصول العربية التى دعم البشير تحولها إلى ميليشيات وسلحها ولم يمنع تورطها بين ٢٠٠٣ و٢٠١١، سنوات الحرب الأهلية، فى جرائم وانتهاكات مفزعة.
قاد ميليشيات الجنجويد فى حرب دارفور الأهلية محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتى، الذى منحه الرئيس السابق البشير رتبة عسكرية فى ٢٠٠٧ وسمح له بالاحتفاظ باستقلالية ميليشياته ككيان شبه عسكرى، واعتمد عليها فى مواجهة حركات تمرد متتالية فى أقاليم ــ أطراف مختلفة، وأعاد هيكلتها فى ٢٠١٣ تحت مسمى «قوات الدعم السريع» وضمن لها موارد اقتصادية ومالية مستقلة (مواقع تعدين الذهب فى دارفور). بين ٢٠١٣ و٢٠١٩، تواصل صعود حميدتى وقواته التى تزايد عددها وعتادها، وشاركت بحلول ٢٠١٥ فى الحرب على الحوثيين فى اليمن بعد انضمام نظام البشير إلى التحالف العربى بقيادة السعودية، وصارت بموجب قانون صدر فى ٢٠١٧ مدرجة اسميا فى الجيش السودانى دون أن تدمج فى أطره النظامية.
وكان الرئيس السابق بكل ذلك يؤسس لبقاء طويل المدى للميليشيات ولازدواجية حاملى السلاح النظاميين وغير النظاميين التى خرجت عن السيطرة بعد عزله من السلطة فى ٢٠١٩ وعرقلت جميع محاولات التوافق الوطنى حول صيغة حكم مستقرة تضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للسودانيات والسودانيين الذين أرادوا التخلص من الإرث المرير للبشير.
• • •
غير أن إنهاء وجود الميليشيات والقضاء على ازدواجية حاملى السلاح النظاميين وغير النظاميين كهدفى البداية فى الصدام الراهن لا يعنيان دفع الجيش السودانى إلى مواصلة العمليات العسكرية إلى أن يتم إنزال الهزيمة بقوات الدعم السريع.
فالكلفة البشرية والمادية لاستمرار القتال مرتفعة بفداحة، وفرص النصر الكاسح هنا والهزيمة الساحقة هناك محدودة للغاية. الأقل ضررا مجتمعيا وسياسيا والأكثر واقعية عسكريا هو تشجيع الجيش، وبعد أن تمكن من منع الميليشيات من تحقيق انتصارات نوعية فى الخرطوم وخارجها، على قبول (وتمديد) اتفاقات وقف إطلاق النار وتجديد التفاوض مع قوات الدعم السريع على مسار توافقى وضمانات مقبولة لدمجها مقاتلين وأسلحة فى الأطر النظامية.
وليس للتفاوض فى هذا الصدد سوى أن يتم برعاية أطراف إقليمية تقف إلى جانب الجيش السودانى كمصر، وبتشجيع من أطراف إقليمية أخرى تربطها بالميليشيات ولأسباب مختلفة علاقات تأييد ودعم كالسعودية والإمارات وباتت تدرك اليوم استحالة الحسم العسكرى فى الصدام الراهن وكارثية عدم إنهاء وجود الميليشيات التى تقوض مؤسسات الدولة الوطنية وتقضى على العيش المشترك فى المجتمع وتنتهك بخروجها على الدستور والقانون حقوق المواطن والمواطِنة. ويستطيع صناع القرار فى مصر توظيف البيئة الدولية المؤيدة للتفاوض بين أطراف الصدام، وموقف الأمم المتحدة المطالب بدمج الميليشيات فى الجيش النظامى، والقلق الإقليمى والعالمى العام من استمرار العمليات العسكرية فى السودان وما سيسفر عنه ذلك من ارتفاع أعداد القتلى والأشخاص المصابين ومن اتساع نطاق دمار البنى المجتمعية والسكانية ومن تواصل عمليات النزوح واللجوء لمئات الآلاف ثم ملايين السودانيات والسودانيين الذين حتما سيضغطون اقتصاديا واجتماعيا على دول الجوار ومصر من بينها وحتما أيضا سيستدعون تقديم المساعدات المالية والإنسانية من عموم الإقليم والقوى العالمية.
أدرك جيدا أن أطراف الصدام فى السودان لم تقتنع تماما بعد بأولوية التفاوض على القتال، وأن أطرافا إقليمية ما لبثت تفتش عن سبل إطالة أمد العمليات العسكرية تحقيقا لما تراه مصالحها الاستراتيجية والأمنية، وأن قوى دولية قد ترحب بإلهاء الرأى العام العالمى عن حروبها هى بحرب أهلية دموية فى بلد عربى وإفريقى كبير (مساحة وسكانا) يقع فى منطقتين جغرافيتين حيويتين (شمال إفريقيا والقرن الإفريقى) . أدرك من ثم، إذا، أن احتمالات الذهاب إلى جلسات تفاوضية جادة تظل محدودة ومحفوفة بالمخاطر، شأنها شأن فرص إقرار مسار توافقى قابل للتطبيق وفقا لجدول زمنى واضح واعتماد ضمانات حقيقية ملزمة لدمج ميليشيات الدعم السريع فى الجيش السودانى.
غير أن مسئولية مصر تجاه الجار الأقرب ومقتضيات حماية شعبه وعيشه المشترك ومؤسسات دولته والحيلولة دون المزيد من الدماء والدمار والنزوح تلزم بالمحاولة، مثلما تحتمها مصالحنا الحيوية أمنا مائيا، وأمنا على امتداد حدودنا الطويلة مع السودان، وعلاقات اقتصادية وتجارية، وتنسيقا استراتيجيا مع حكومة سودانية مستقرة تتبنى فيما خص ملف سد النهضة وتجاه إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقى اختيارات وسياسات لا تتناقض مع الاختيارات والسياسات المصرية.
• • •
قد تخفق المساعى المصرية للتشجيع على وفق إطلاق النار والتفاوض بين الجيش والدعم السريع، وقد تفشل مساعى قوى إقليمية ودولية أخرى. قد يطول أمد الصدام الراهن فى السودان، وتستمر العمليات العسكرية، وترتفع كلفتها البشرية والمادية الباهظة بالفعل. قد تحقق أطراف داخلية وإقليمية ودولية لا تمانع فى إغراق جارنا الجنوبى فى حرب أهلية طويلة المدى أهدافها، وقد يسبب ذلك المزيد من ضغوط الجوار المباشر لمصر على أوضاعها الداخلية، وهى ضغوط حاضرة بقوة وفى قائمة طويلة قادمة من الشرق (فلسطين) والغرب (ليبيا) والجنوب (إثيوبيا) وقطعا لا تنقصها اليوم أن تضاف إليها ضغوط انفلات الأوضاع فى السودان.
قد تصير الأمور إلى هذا المآل المفزع، وعندها سيصبح على صناع القرار فى مصر الانتقال إلى مرحلة تالية فى فعلهم السياسى المسئول جوهرها الدفاع عن أمننا القومى الشامل، ومد شبكات الحماية للشعب السودانى قدر الإمكان، وتشجيع المجتمع المصرى عبر فعالياته المدنية والخيرية على مواصلة استقبال السودانيات والسودانيين القادمين إلينا كأخواتنا وإخواننا الذين تربطنا بهم أواصر النيل والتاريخ والثقافة والتداخل السكانى العميق والذين أبدا لن يعيشوا بيننا إلا كأهل بيت لهم نفس حقوقنا وعليهم نفس واجباتنا. فمثلنا لا يتورط فى عنصرية مقيتة تجاه من يبحثون بين ظهرانينا عن حياة آمنة، ومجتمعنا لم يمانع يوما وعلى الرغم من ظروفه المعيشية الصعبة فى اقتسام لقمة عيشه مع أخواتنا وإخواننا القادمين من السودان واليمن وسوريا وغيرها من بلدان الجوار التى ننتمى إليها وينتمون إلينا.