تونس ومصر: الالتباس .. فى الموقف من العنف الجهادى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 مايو 2013 - 9:30 ص
بتوقيت القاهرة
خلال ما يقل عن ثلاثة أسابيع فى شهر مايو الحالى، خبرت كل من تونس ومصر عنفا سياسيا وتحديا سافرا للدولة ولأهم رموز سيادتها. فى تونس انفجرت الألغام فى عناصر قوات الأمن والجيش فى جبل الشعانبى بولاية القصرين فى منطقة حدودية مع الجزائر. فى مصر، اختطف سبعة من جنود الشرطة وضابط بالجيش فى وسط سيناء. فى تونس، تظاهر عناصر من جهاز الحرس الوطنى أمام مديرية الأمن بمركز الولاية للمطالبة بتوفير كاشفات ألغام لاستعمالها عند تمشيط المناطق الجبلية التى يتحصن بها «الإرهابيون». فى مصر، أغلقت عناصر من الأمن المعبر بين الرفحين المصرية والفلسطينية احتجاجا على اختطاف زملائهم وللمطالبة بحماية عناصر الأمن بعد أن تعدد الاعتداء عليها.
فى تونس، نددت القوى السياسية العلمانية بما اعتبرته سكوتا يبلغ حد التواطؤ، سكوت حركة النهضة الإسلامية، المسيطرة على الحياة السياسية التونسية فى الفترة الانتقالية الراهنة، على السلفية الجهادية المشتبه فى مسئوليتها عن عملية جبل الشعانبى وعن عمليات أخرى سابقة. فى مصر، نددت القوى السياسية العلمانية بالنظام الذى يسيطر عليه الإخوان المسلمون وحزبهم والذى ترك التنظيمات الجهادية تتمدد وتفرض سيطرتها على سيناء وتقزم الدولة فيها. فى الحالتين التونسية والمصرية لم يعترف السلفيون الجهاديون صراحة بمسئوليتهم عن العمليتين إلا أن تداعيات كل منهما تبين هذه المسئولية بما يكفى من الوضوح.
فى تونس، وعلى الرغم من تنديد القوى العلمانية، فإن الحكومة تحركت فمنعت الأنشطة الدعوية غير المرخصة، وفتشت القوافل الخيرية، ومنعت تثبيت الرايات الجهادية فوق الجوامع، ومشطت جبل الشعانبى ونظفته من الألغام، وقبضت على العشرات من العناصر الجهادية. قابلت جماعة «أنصار الشريعة» التى ينتظم فيها السلفيون الجهاديون التونسيون ذلك ببيان شديد اللهجة، حربى اللغة، يتحدث عن السيوف المقعقعة والسهام المريشة والنصال الضاربة، بيان صادر عن رئيسها موجه فى بعض منه إلى «الطواغيت المتسربلين بسربال الإسلام والإسلام منهم براء»، فما كان من حكومة حركة النهضة إلا أن منعت مؤتمرا «لأنصار الشريعة» فى مدينة القيروان، فلما انتقل به منظموه إلى العاصمة حظرته السلطات الرسمية هناك أيضا فوقعت اشتباكات وسقط قتيل وعدد من الجرحى. بيان أنصار الشريعة ومواجهاتهم مع الحكومة فيها سند قوى للاشتباه فى مسئولية السلفيين الجهاديين عن عملية جبل الشعانبى. فى مصر، تحركت القوات المسلحة إلى وسط سيناء للعمل على الإفراج عن الرهائن من أيدى أطراف لم يسمها أحد، بل إن رئيس الجمهورية كان حريصا على المختطفين قدر حرصه على حياة الجنود الرهائن. وبعد انقضاء ما يقرب من الأسبوع أفرج المختطفون عن رهائنهم، دون أن تقبض السلطات الرسمية عليهم على الرغم مما أعلن عن أن سبب إفراجهم عن رهائنهم هو انكشافهم تماما فى منطقة مفتوحة فى وسط سيناء، وكذلك من غير الكشف عن هوية المختطفين على الرغم مما قيل عن التعرف حتى على أسمائهم جميعا! بعض العلمانيين اعتبروا أن عملية الاختطاف والإفراج مجرد تمثيلية، والبعض الآخر طالب بمعرفة شروط الصفقة التى أفرج المختطفون بمقتضاها عن رهائنهم. أنكرت السلطات المسئولة عن الأمن أن تكون طرفا فى أى صفقة، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة أن لا صفقة مع متخذى القرار النهائى. القنوات الخلفية فى المفاوضات الخاصة بالشئون الداخلية والخارجية منهج معروف فى التفاوض، وقد مارسته السلطة الحاكمة الحالية فى الشأن الخارجى. ثارت إشاعات عن مثل هذه المفاوضات مع أطراف سلفية جهادية فى سيناء، ووفر جهاديون بارزون فى القاهرة السند القوى للاشتباه فى مسئولية السلفيين الجهاديين عندما طالبوا فى مقابل إطلاق سراح الرهائن بسرعة الإفراج عن مسجونين محكوم عليهم بالسجن لاقتحامهم قسم للشرطة فى سيناء والاعتداء قتلا على عناصر الأمن فيه، باعتبار أنهم مظلومون، وعلى الرغم من أن كلا من الاعتداء والحكم وقعا بعد سقوط النظام المباركى.
الالتباس فى موقف جماعات الإسلام السياسى من العنف الجهادى واضح. من جانب لا تستطيع القوى الإسلامية الحاكمة فى تونس ومصر القبول بتقويض أسس سلطة الدولة فى كل منهما، حتى وإن كان صحيحا ما يراه بعض العلمانيين من اشتراك القوى الإسلامية جميعها فى الهدف النهائى، أى إقامة أنظمة سياسية متقوقعة حول خصوصية ثقافية جامدة لا تقبل التطور. بلوغ الهدف النهائى يمر بمحطات وسيطة. تدمير الجهاديين للمحطات الوسيطة يجعل من شبه المستحيل بلوغ الهدف النهائى، كما أنه ليس مثل الدولة أداة لبلوغ هذا الهدف بأقصر الطرق وأقلها تكلفة. يبدو أن حركة النهضة أدركت ذلك فعقدت عزمها على منازلة الجهاديين، وأعلن رئيس الوزراء المنتمى إليها أنه لا مهادنة مع المشتبه فيهم وإنهم إرهابيون أيديهم ملطخة بالدماء. الموقف الأخير لحركة النهضة وحكومتها هو موقف الدفاع عن الدولة، وهو موقف مشروع. غير أن هذا الموقف يضع حركة النهضة فى مأزق، فهى تكشف به أمام الرأى العام، كشفا لا مراء فيه، عن أن المواقف السياسية المنعوتة بالإسلامية هى مواقف يمكن أن تتباين تماما، وبالتالى فهى نسبية لا قيمة مطلقة لها، بينما الادعاء بالقيمة المطلقة، غير القابلة للتجزئة، لمواقفها هى أقوى أسلحة تنظيمات الإسلام السياسى. يمكن أن يكون فى الاعتراف الضمنى بنسبية مواقفها تهديد لمجمل حركات الإسلام السياسى. فى مصر، لم تعقد السلطة الحاكمة عزمها على شىء. هى تراوح مكانها. فى هذا أيضا تهديد للإسلام السياسى، الحاكم منه لأن فيه تقويضا لسلطة دولة لايعرف كيف يصونها، وأما الجهاديون من بينه فهم يستطيعون زعزعة سلطة الدولة إلا أنه لا يمكنهم فرض سيطرتهم عليها وحكمها. أى مأزق تاريخى يجد الإسلام السياسى فيه نفسه!