الديكتاتورية فى أرض البرقوق الأخضر
رشيد العناني
آخر تحديث:
الإثنين 28 يونيو 2010 - 11:00 ص
بتوقيت القاهرة
العيش فى ظل دولة شمولية، فى ظل القمع الأمنى، تحت المراقبة المستمرة، فى خطر دائم من الملاحقة والاعتقال لسبب أو لغير ما سبب، فى خطر الطرد من الوظيفة، فى خطر الأخذ بالشبهات، فى خطر امتهان الكرامة والإذلال، مثل هذا العيش لا يترك فى نفس المواطن، إن عجز عن المقاومة، سوى الرغبة فى الهرب، فى الخروج إلى بلد آخر. فقط الطبقة الحاكمة يطيب لها العيش فى ظل نظامها.
«كل فرد كان يعيش على أمل الهروب. كانوا يفكرون فى السباحة عبر نهر «الدانوب» إلى أن تصبح المياه بلدا آخر، فى الجرى خلال حقول الذرة إلى أن تصبح التربة بلدا آخر. كان بإمكانك أن ترى فى عيونهم أنهم لن يلبثوا أن يصرفوا كل قرش فى جيوبهم من أجل الحصول على خرائط تفصيلية (...) الوحيدون الذين لم يكونوا يريدون الهرب هم الديكتاتور وحراسه. كنت تستطيع أن ترى ذلك فى عيونهم، وأشهديديهم، وشفاههم. اليوم وغدا وبعد غد سوف يصنعون المقابر بكلابهم، وبرصاصهم (...) بإمكانك أن تحس بالديكتاتور وحراسه يحومون حول كل خطط الهروب السرية.
بإمكانك أن تحس بهم متربصين، يوزّعون الخوف». (ص 48 من الترجمة الإنجليزية).هكذا تصف «هرِتا مُولر» Herta Muller الروائية الألمانية الرومانية، الفائزة بجائزة نوبل فى الأدب لعام 2009، حال العيش فى ظل حكم الديكتاتور الرومانى نيقولاى شاوشيسكو (1918 ــ 1989) قبل سقوط نظامه وإعدامه مع زوجته فى ظل مد التحرر من الأنظمة الشيوعية الشمولية الذى اجتاح أوروبا الشرقية فى الثمانينيات من القرن الماضى، وبلغ الذروة بسقوط جدار برلين فى نفس العام 1989.
المقتطف السابق يأتى من أشهر رواياتها، وأفضلها فى رأى الكثيرين، «حيوان القلب»، التى نُشرت لأول مرة فى ألمانيا فى سنة 1993 بعد نحو أربع سنوات من سقوط الديكتاتور ونظامه، قبل أن تترجم إلى الإنجليزية بعنوان «أرض البرقوق الأخضر» فى سنة 1996.
يمكن أن تُعد الرواية دراسة فى طبيعة الدولة البوليسية وآلياتها، وفى طبيعة العلاقة فيها بين الحاكم والمحكوم التى يطبعها الإرهاب والاحتقار من ناحية، والخوف والكراهية من الناحية الأخرى. وهى دراسة كانت هرتا مولر (المولودة عام 1953) مؤهلة خير تأهيل لكتابتها، فهى عاشت أكثر من ثلاثين سنة من حياتها فى ظل نظام ديكتاتورى حتى تمكنت من الهجرة إلى ألمانيا فى 1987 قبل سنتين فقط من سقوط نظام شاوشيسكو. وعانت من الاضطهاد، والاعتقال، والطرد من العمل، والرقابة على النشر، وشاهدت بعض أصدقائها يفقدون حياتهم فى ظل العيش تحت النظام، أو محاولة الهروب منه. وهى الخبرات الحياتية التى تقوم عليها هذه الرواية، التى هى فى بعض تفاصيلها سيرة ذاتية بغير شك.
الرواية مقبضة، يسرى فيها الإحساس بالقهر، والفقر، والخوف، والكره. وتخلو من أى عنصر مخفف لليأس البشرى السارى بين أعطافها. وتلجأ الكاتبة إلى أسلوب بسيط، وصفى، شبه تقريرى، يعتمد على الجمل القصيرة، ويبعد عن الخيال والاستعارات غالبا. وينجح إلى حد كبير فى خلق الإحساس برتابة الحياة، وعموم التعاسة، وانسداد السبل أمام جماعة الأصدقاء المكونة من البطلة التى تُروى القصة على لسانها ورفاقها الثلاثة، وكلهم من أبناء الأقلية ذات الأصل الألمانى فى رومانيا والمشكوك فى ولائها، والذين يقعون جميعا فى مشاكل مع جهاز الأمن بسبب رفضهم العمل لحسابهم.
تطرح الرواية فكرة الكراهية باعتبارها نوعا من المقاومة السلبية، إلا أن اليأس يبلغ حدا يصبح الكره معه خدمة تُوظف لمصلحة النظام: «لم أكن أعرف أن الحراس يحتاجون تلك الكراهية لكى يمارسوا عملهم الدموى بدقة يومية، أنهم يحتاجونها لكى يتصرفوا فى المصائر لقاء رواتبهم، وأنهم لا يمكنهم أن يصدروا الأحكام إلا ضد أعدائهم. إنما يثبت الحراس جدارتهم بقدر ما يكون لهم من أعداء».
(ص 50)
وفى النظام الشمولى يحكم الخوف كل عازبة وغاربة فى حياة الفرد. تصف بطلة الرواية، التى تمثل الكاتبة، مشاعرها وأصدقاؤها الثلاثة، بعد استجوابهم بتهمة كتابة قصيدة معادية للنظام على هذا النحو: «لأننا كنا خائفين، كنا نتقابل أربعتنا كل يوم. كنا نجلس معا إلى طاولة، لكن خوفنا كان يبقى حبيسا داخل أدمغتنا، تماما على الحال الذى نأتى به إلى لقاءاتنا.
كنا نضحك كثيرا، لكى يخفى كل منا خوفه عن الآخر. إلا أن الخوف دائما يجد منفذا. إن تحكمت فى ملامحك، تسرب مع صوتك. وإن سيطرت على ملامحك وصوتك، حتى تخشّبا، فإنه يتسلل من أصابعك. وإنه لينفذ من مسام جلدك ويرقد فى الأمكنة، وإنك لتستطيع أن تراه قابعا فوق الأشياء من حولك». (ص 74 ــ 75)
والخوف الذى يخلقه فيك النظام الشمولى يلاحقك أينما ذهبت ويبقى معك، فلا يشعر المواطن بالأمان حتى وقد غادر البلاد. إن لم يلاحقه النظام جسميا، فإنه يلاحقه معنويا، ويلاحقه بالخوف الذى زرعه فى نفسه لسنوات طوال حتى يفسد عليه الحياة، وهو ما تصوره هرتا مولر عبر بطلتها وأصدقائها الذين يقعون ضحية للنظام، يتساوى فى ذلك من تمكّن من المغادرة ومن بقى فى البلاد.
وعلى الرغم من أن البطلة وواحدا من أصدقائها يتمكنان من الهرب، إلا أن هذا لا يُصور فى الرواية انتصارا، ولا نراهما تستقيم حياتهما أو ينالان السعادة، وإنما تلاحقهما أخبار المآسى التى تركاها خلفهما، ويرافقهما الخوف والكراهية اللذان غادرا معهما، قالت مولر فيما قالت عقب فوزها بجائزة نوبل فى أكتوبر الماضى إن رواياتها إنما هى نتاج خبرتها الحياتية فى ظل الأنظمة القمعية الشيوعية، ورأت أنه من محاسن الصدف أنها نالت الجائزة فى ذكرى مرور عشرين سنة على سقوط حائط برلين. وتذكرت ضحايا القمع الذين لم يعيشوا ليشهدوا لحظة سقوط قامعيهم، كما قالت إنه من الأسئلة التى ألحت عليها سنوات هو محاولة فهم الديكتاتورية: «كيف تعيش وتتنفس».
هذه الرواية هى ضمن محاولات مولر الإجابة عن هذا السؤال بتحليلها لطبيعة الديكتاتورية، ولطبيعة العيش فى ظلها. ولعل انشغالها بهذا السؤال فى كتاباتها هو الباعث وراء فوزها بجائزة نوبل. الرواية جيدة، ولكنها ليست رواية عظيمة. وإذا قلنا هذا عن الرواية التى يجمع النقاد على أنها أنضج أعمالها، فماذا يكون القول فيما هو دونها؟ ولم تكن مولر معروفة عالميا وقت فوزها، حتى أنى عقب إعلان فوزها فى أكتوبر الماضى، لم أجد رواية واحدة لها فى المكتبات لأنها كانت نفدت من سنوات ولم يُعاد طبعها لقلة الإقبال عليها. فلجأت إلى «الإنترنت» فأذهلنى أن أعثر على سوق سوداء انتهازية تعرض بعض كتبها بما يتراوح بين مائتى وثلاثمائة جنيه استرلينى. عندئذ آثرت الصبر، إلى أن تدارك الناشرون الأمر، وفى خلال شهرين أو ثلاثة طُرح المترجم من أعمالها إلى الإنجليزية فى الأسواق.
فكيف فازت كاتبة مقلة، جيدة ولكنها غير باهرة، بأرفع جائزة أدبية فى العالم؟ هى الرسالة السياسية الإنسانية فى المقام الأول، وليس الانتاج الغزير والفن الذى بلا مضارع. مازال شبح الديكتاتورية والدولة الشمولية يلاحق الضمير الأوروبى بعد عقود من انهيار أنظمتها الفاشية والنازية والشيوعية. وهو شبح جد مريع. وإن كانت الأنظمة الشمولية قد انهارت فى أوروبا، فإنها حية تسعى فى غير رجو من العالم. فلعل محكمى «نوبل» لم يجانبهم الصواب فى ختام الحساب، إذ لفتوا الأنظار لكاتبة صرفت جهدها لفهم واحد من أفتك أوبئة المجتمع البشرى فى الماضى والحاضر: الديكتاتورية.