مخاطر إعادة إنتاج..حلقة الصمت

ماجد عثمان
ماجد عثمان

آخر تحديث: الأحد 28 يوليه 2013 - 9:28 ص بتوقيت القاهرة

فى عام 1947، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها أسست اليزابيث نويل نيومان مركزا لاستطلاع الرأى العام فى ألمانيا الغربية وأحد أهم إنجازات نيومان كان كتابها التى نشر عام 1984 والذى قدمت فيه لنظرية «حلقة الصمت» «The Spiral of Silence» التى فسرت بها تكوين الرأى العام وتعرضت لأسباب وتبعات تشكيل الرأى العام بواسطة الأغلبية وظاهرة سلوك القطيع. وتفسر هذه النظرية تشكيل الرأى العام حول قضية معينة بأنه يكون مدفوعا فى البداية بظهور رأى له مؤيدوه ومعارضوه، وأن إصرار المؤيدين إذا قابله تقاعس من المعارضين فى تفنيد هذا الرأى يزداد تأثير هذا الرأى تدريجيا. مما يدفع المعارضين للخجل من إبداء رأيهم ليخفت صوتهم تدريجيا حتى يصبح هناك رأى واحد لا يوجد من يخالفه ربما من قبيل المسايرة الاجتماعية.

•••

وتنتشر حلقة الصمت المفرغة فى الأنظمة الشمولية وتنطبق فى حياتنا السياسية المعاصرة على مواقف عديدة. وعلى سبيل المثال، مشروع السد العالى وهو بلا شك مشروع غير وجه الحياة فى مصر سواء فى نظام الرى المرتبط بحياة نحو نصف المجتمع المصرى أو من حيث تأمين المياه وهى الضرورة الأولى للبقاء، إلا أن الأصوات التى كانت تعارضه من منطلق الانعكاسات السلبية للمشروع مثل نقص طمى النيل أو تأثير بحيرة ناصر على زيادة مخاطر حدوث زلازل كانت خافتة عند الشروع فى التنفيذ وركنت هذه الأصوات إلى الصمت فى ظل آلة إعلامية تُسَوق للمشروع باعتباره إنجازا تاريخيا لكل المصريين. وبعد عدة سنوات وعندما أضىء النور الأخضر لمهاجمة إنجازات عبدالناصر ارتفع صوت المتحدثين عن التأثيرات السلبية للسد العالى وتوارت الأصوات التى تبين أهمية هذا المشروع ومردوده على التنمية وعلى الحد من الفقر فى الريف المصرى.

نفس الشىء حدث بعد صدور قرارات تأميم قلاع الانتاج الصناعى فى بداية الستينيات وبعد صدور قرارات جمهورية ووزارية عديدة خلال العقود الأخيرة مثل قوانين الإسكان وقوانين تحديد ثم تحرير إيجار الأرض الزراعية وقرارات إلغاء السنة السادسة الابتدائية ثم إعادتها. وفى جميع الحالات كان الصوت الأعلى هو رأى الدولة الذى يخنق دون هوادة الرأى الآخر ولا يترك الفرصة للمجتمع للتدبر فى نتائج هذه القرارات والموازنة بين مزاياها وعيوبها وتفهم ضرورات تنفيذها. وهذا المناخ أضاع على المجتمع المصرى عبر العقود الماضية فرصة الاصطفاف الوطنى العاقل حول أى مشروع إذا ما تبين أن مزاياه أكبر من عيوبه.

وتظهر حلقة الصمت أيضا فى المجتمعات التى تواجه أخطارا يستوى فى ذلك المجتمعات الديمقراطية أو الديكتاتورية والأمثلة على ذلك عديدة فى المجتمع الأمريكى منها التعامل مع الأمريكيين من أصول يابانية أثناء الحرب العالمية الثانية ومنها الترويج لغزو العراق بدعوى امتلاك أسلحة دمار شامل والعديد من منحنيات الصراع العربى ــ الإسرائيلى تشهد على سقوط مواطنى المجتمع الغربى الديمقراطى فى براثن دائرة الصمت مع بعض الاستثناءات النادرة. وتبدو قضية طرح أى تساؤل حول الهولوكوست مثال صارخ فى مجتمعات يسمح فيها بمناقشة كل المسلمات والتشكك فيها بما فى ذلك العقيدة الدينية.

•••

ولعل القارئ يتساءل ما هى مناسبة إثارة هذا الموضوع فى فترة عصيبة نرى فيها الوطن يكاد يحترق. وسبب إثارة هذا الموضوع هو الخوف من أن يؤدى المشهد السياسى تدريجيا إلى وقوع الشعب المصرى فى براثن هذه الحلقة المميتة. من المؤكد أن إحدى نتائج ثورة يناير كان ظهور حالة من الاستقطاب الحاد متعدد الأبعاد (فلول / ثوار، اسلاميون / ليبراليون، مع الإخوان / ضد الإخوان)، كما تسللت أبعاد أخرى فى عملية الاستقطاب لتشمل أبعاد طبقية وجغرافية قد يصبح لها تأثير سلبى على تماسك بنية المجتمع المصرى فى المستقبل. وحالة الاستقطاب المتعدد تخلق مناخا من التوتر والعراك المستمر يترتب عليه فى ظل التشدد وعدم قبول الآخر حالة من الاقتتال الداخلى الذى يمكن أن يدمر وطن ظل متماسكا لآلاف السنوات، إلا أن حالة الاستقطاب المتعدد الأبعاد لها مزاياها التى تسمح بالتعبير عن قدر من التنوع يثرى الحياة السياسية والثقافية.

إن المشهد السياسى الحالى يدفع إلى تكريس حالة استقطاب أحادية الأبعاد بؤرتها الإخوان المسلمين، لتتراجع عوامل الاستقطاب المتعدد التى عايشها المجتمع المصرى على مدار الأشهر الثلاثين الأخيرة لتُختزل فى بُعد واحد هو «مع الإخوان» أم «ضد الإخوان». ومن المؤكد أن الإخوان ارتكبوا أخطاء جسام وأضاعوا الثقة التى أولاها لهم غالبية المصريين ودخلوا فى معارك غير ضرورية. ولكن يجب أن نتوقف أمام المحتوى الذى قدمته معظم وسائل الإعلام فى الأسابيع الماضية فى تقييمها لجماعة الإخوان المسلمين ودورها وتاريخها. إن ما تم عرضه فى وسائل الإعلام فيه قدر كبير من التعميم الذى لا يفرق بين قيادات للجماعة قامت بتجاوزات فى حق الوطن والمواطنين وبين جزء من الشعب المصرى انتمى للجماعة أو تعاطف معها ولم يكن مسئولا عن تصرفات القيادات. إن التعميم المفرط الذى تم خلال الأسابيع القليلة الماضية يُقلل فرص المراجعة من قبل المنتمين للجماعة، ويجعل إعادة التفكير فى مسلمات استقرت فى وجدان أفرادها مسألة مستحيلة من الناحية النفسية، ويجعل الجنوح إلى التطرف والاستشهاد هو البديل المطروح.

ولكن الخطأ الذى يبدو أننا نمضى إليه ــ بعد انقضاء مرحلة حكم الإخوان ــ هو البحث عن عدو نحمله كل أخطاء الماضى ونعتبره المبرر لاتخاذ إجراءات استثنائية غير مبررة. وفى هذه الحالة سيتم ارتكاب حماقات لا تقل عن الحماقات التى ارتكبها الإخوان سواء فى اتخاذ قرارات غير ضرورية أو فى عدم اتخاذ قرارات ضرورية. ومع التسليم بدقة الموقف الحالى ومع ضرورة حرص الجميع على نبذ العنف، إلا أن الخوف كل الخوف أن يتحول الخلاف السياسى الراهن إلى معركة افتراضية تعود بمصر إلى ثقافة «لا صوت يعلو على صوت المعركة» فهى ثقافة مريحة تتيح مساحة رحبة لغياب المساءلة والشفافية، ويصاحبها عادة انتشار حلقات الصمت التى يقع المواطن فى براثنها خوفا أو طمعا أو استجابة لتأثير المسايرة الاجتماعية، وفى هذه الحالة ستعود عقارب الساعة إلى الوراء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved