حلّ وسط تاريخى فى مصر
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 28 يوليه 2018 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
فى بداية النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، أطلق إنريكو برلينجوير، زعيم الحزب الشيوعى الإيطالى، فكرة الحل الوسط التاريخى لبلاده. الحزب الشيوعى الإيطالى كان عندئذ أكبر حزب شيوعى فى خارج المعسكر الاشتراكى، وكان يتنافس على موقع أكبر الأحزاب الإيطالية مع الحزب الديمقراطى المسيحى بأجنحته المختلفة. على الرغم من وزنه الجماهيرى وفى الحركة النقابية، لم يشارك الحزب الشيوعى قط فى الحكم منذ اعتماد دستور الجمهورية الإيطالية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. واقتصر الحكم على أحزاب خمسة اندرجت فى آليات الديمقراطية التعددية. الدافع لفكرة برلينجوير كان التوصل إلى حلّ للتناقض الجذرى بين الديمقراطية الإجرائية «البورجوازية»، ومعها التعاون الطبقى، من جانب، وديكتاتورية البروليتاريا، ومعها صراع الطبقات، من جانب آخر.
أما جوهر الفكرة فكان قبول الحزب الشيوعى بالديمقراطية الإجرائية والتخلى عن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا وعن الصراع الطبقى سبيلا إلى تحقيقها، فى مقابل مشاركة الشيوعيين على قدم المساواة فى الحكم والاعتناء الحقيقى بالقضايا التى تهم الشيوعيين مثل العدالة وملكية أدوات الإنتاج وتوزيع عوائده وإعادة توزيعها.
انتشر جوهر فكرة الحل الوسط التاريخى فى أوروبا الغربية. لم تستفد منها إيطاليا بالذات، ولكنها أسهمت فى التحول الديمقراطى فى إسبانيا والبرتغال فى النصف الثانى من السبعينيات وفى تحالف الحزبين الاشتراكى والشيوعى الفرنسيين حول برنامج اقتصادى واجتماعى تقدمى، ما مكّن من انتخاب فرانسوا ميتران لرئاسة الجمهورية الفرنسية فى سنة 1981 وتشكيل حكومة اشترك فيها الشيوعيون الفرنسيون لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
***
المناسبة فى أن نتذكر «الحل الوسط التاريخى» هى الشجار الذى أصبح سنويا كلما حلّت ذكرى يوليو سنة 1952. فريق يدافع عن النظام السياسى الذى نشأ اعتبارا من ذلك التاريخ وعن كل ما صدر عنه، يشيد بإنجازاته ويبرر إخفاقاته، ويتجاهل نواقصه، ويقدّس زعيمه المؤسس. فى المقابل، فريق يهيل التراب على نظام يوليو برمته ويركّز على نواقصه، ولا ينفك يهاجم مؤسسه، مشيدا بكل ما كان قبل 1952، متجاهلا قصور النظام السياسى القائم آنذاك. فريق ثالث خفيض الصوت، يبدو وكأنه يصطف مع الفريق الأول، ولكنه فى الواقع يركِّز على التفاوتات الاجتماعية قبل 1952 وعلى الأعطال المزمنة للنظام السياسى لتلك الفترة، ولكن دون دفاع مستميت عن نظام يوليو ولا تقديس لزعيمها. هذا الفريق الثالث هو غالبا فريق اليسار. الفريق الأول اصطلح على اعتباره فريق الناصريين، أما الفريق الثانى، فإنه يصعب تحديد هويته لأن المنضمين إليه فى كل سنة يمكن أن يشملوا ليبراليين ويساريين ديمقراطيين ورجعيين وإخوانا مسلمين.
الشجار السنوى هزل ومضيعة للوقت وتبديد للجهد، ولا بد من وضع حدّ له فهو لا ينجح إلّا فى الإبقاء على المشاركين فيه متباعدين. كثير من هؤلاء المشاركين لهم تحفظات على أسلوب الحكم الحالى فى مصر وعلى استبعادهم من آلياته. لكن الواقع هو أنه لا يستبعدُ إلّا من يمكن استبعاده. حجة أن الشجار هو على شكل المستقبل الذى يريد هؤلاء وأولئك بناءه غير مقبولة، لأن أحدا منهم لن يستطيع بناء لا هذا الشكل ولا ذاك لسببين. الأول هو أن زمن كل من الشكلين قد زال إلى غير رجعة، وليست بينةٌ على ذلك أفضل من فشلهما فى إعادة إنتاج نفسيهما من غير خضات. السبب الثانى هو أن الشجار سيُبقى المشاركين فيه متباعدين ضعاف فيسهل الاستمرار فى استبعادهم من آليات الحكم.
مطلوب حل وسط تاريخى فى مصر بين المدافعين عن نظام يوليو والمهاجمين له. نظام ما قبل 1952، دستوريا وسياسيا، هو الذى نشأ بمقتضى دستور سنة 1923. كانت فى النظام الدستورى ديمقراطية إجرائية لا بأس بها وإن كانت هذه الديمقراطية قد فشلت فى حمايته فى وجه تآلف السراى وأحزاب الأقلية والاحتلال البريطانى. الحريات كانت معقولة. النظام الاقتصادى والاجتماعى كان امتدادا للنظام القائم منذ ستينيات القرن التاسع عشر على الأقل، بما فى ذلك الملكية الخاصة للأرض الزراعية، أصل التكون الطبقى الذى تعزز فى القرن العشرين. تطورت هياكل الدولة الحديثة وحدث تقدم فى الزراعة وفى الرى والطرق والتعليم والثقافة ثم الصناعة ولكنه بقى تقدم ذو أفق مسدود بفعل المصالح الطبقية، ولم ينجح النظام الاقتصادى والاجتماعى فى التخلص من آفات «الفقر والجهل والمرض». إيجابيات النظام كانت فى آليات الديمقراطية الإجرائية، وفى الحريات، وفى تطور هياكل الدولة الحديثة.
***
نظام ما بعد 1952، فيه قطيعة وتواصل مع ما قبله. أعتى الثورات لا تحدث قطيعة تامة مع ما قبلها. بدون أن ينطلق من الصفر، نجح النظام الجديد فى مرحلته الأولى فى تحقيق الجلاء عن مصر ثم أمم قناة السويس وانخرط فى الوحدة مع سوريا ونشط فى تصفية الاستعمار وفى صياغة النظام السياسى والاقتصادى الدولى الجديد فيما بعد تصفيته، فحقق رصيدا لمصر كان زادا لها فى العقود التالية.
فى النظام الاقتصادى والاجتماعى، حدد ملكية الأرض الزراعية ووزع أراضى على معدمين وزاد الإنفاق الاجتماعى على التعليم والصحة والإسكان والثقافة. ثورة يوليو الأبعد أثرا كانت ترسخ فكرة العدالة الاجتماعية فى الثقافة السياسية المصرية ومنحها مضامين. فى الاقتصاد أمم النظام الشركات الكبيرة وحوّل إلى الدولة ملكية أغلب أدوات الإنتاج فى الصناعة الحديثة وفى بعض التجارة. كان التأميم سبيله إلى تمويل سياساته الاجتماعية ولكنه كان أيضا صادرا عن تصور أن دور الدولة الأساسى فى عملية التنمية لا يمكن الاضطلاع به إلا إن امتلكت هذه الدولة الجانب الأعظم من أدوات الإنتاج فى اقتصاد مختلط. هنا نقطة ضعف أساسية فى النظام. لم يحقق النظام التنمية الضرورية لمساندة الدور الاجتماعى لدولة حديثة. قد يحتج أحدٌ بأن الخطة الخمسية الأولى فى أوائل الستينيات من القرن الماضى حققت معدلات نمو مرتفعة وأن حرب يونيو هى سبب البلاء. أول الردّ أن العالم كله حقق معدلات نمو مرتفعة فى الستينيات ولم تكن مصر وحدها فى ذلك. أما حرب يونيو فهى بالفعل بلاء، غير أنه لا يمكن اعتبارها سبب نكبتنا الاقتصادية المقيمة حتى يومنا هذا. لقد انقضت خمس وأربعون سنة منذ الحرب التالية فى أكتوبر 1973 واستعادة مصر لسيناء واستئناف المرور فى قناة السويس ومع ذلك تفاقمت النكبة الاقتصادية، ونتج عنها فشل اجتماعى بل وتصدّع سياسى. بلاء حرب يونيو تمثّل فى احتلال إسرائيل لسيناء ولأراض سورية ولما تبقى من فلسطين، ما أدّى إلى استيطانها وشبه ضياع حقوق الشعب الفلسطينى فيها. ولكنه كان بلاء كاشفا لعلّة جذرية لما بعد يوليو 1952، ألا وهى النظام السياسى. فى هذا النظام طريقة اتخاذ القرار بسيطة وتبسيطية فتقصر عن الإلمام بكل عناصره.
فى حالة حرب يونيو كان القرار متعلقا بمواجهة الاستفزاز وبالتصعيد وبالحرب أو اللا حرب. ولكن هذه البساطة وهذا التبسيط كانا أيضا وراء فشل السياسات الاقتصادية، وهما يفسران عدم تصحيح السياسات وكبت الحريات والقمع. فى الطريقة المبسطة تختزل عملية اتخاذ القرار فى متغيرات قليلة وفاعلين معدودين، ولا توجد وسائل لتصحيح القرار. فإن أثار غيرُك متغيراتٍ ليست موجودة فى طريقتك التبسيطية، أسكتته بالتى هى أحسن أو عنوةً لأنك حريصٌ على طريقتك المريحة لك. فإن تمسك هذا الغير بإثارة متغيراته، فإنك تقمعه وتزيده قمعا حتى لا يعرقل تحقيق النتائج التى لا تتحقق أبدا. أولى إيجابيات نظام يوليو هى من جديد ترسيخ فكرة العدالة الاجتماعية وأولويتها، وهى أولوية أساسية للاقتصاد والمجتمع، بغيرها لا تتحقق تنمية ولا ينجز تقدم. الدور التقدمى لمصر فى العلاقات الدولية هو كذلك من أهم ما يحسب لهذا النظام خاصة فى مرحلته الأولى.
***
ألا يمكن أن يستند الحل الوسط التاريخى فى مصر إلى ثقافة سياسية جديدة تضمّ عناصر مأخوذة من هذا النظام ومن ذاك؟ ألا يجوز أن تشمل هذه الثقافة الديمقراطية الإجرائية، والحريات، والعدالة الاجتماعية، والنشاط الدولى التقدمى مطوَّعا لظروف العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين؟ وتكون قواعد الديمقراطية الإجرائية هى السبيل إلى صياغة السياسات كلها، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخارجية، وإلى إضفاء التجانس عليها وتصحيحها والمحاسبة على نتائجها.
أراد دستور سنة 2014 أن يحقق التوفيق بين يوليو وما قبله عندما جمع أحكاما تنتمى لدساتير هذا وذاك، ولمّا ذكر فى ديباجته زعماء مصر منذ القرن التاسع عشر، بما فى ذلك زعماء ما قبل يوليو وما بعدها. هذا المسعى الأخير جدير بالإشادة غير أن صياغة دستور شيء والخوض فى عملية سياسية تحقق التوفيق المنشود شيء مختلف.
أطراف الحل الوسط التاريخى المنشود ليست بالضرورة القوى السياسية المنظمة وشبه المنظمة الموجودة وحدها. يمكن أن تشمل هذه الأطراف فاعلين لم ينخرطوا من قبل فى تنظيمات سياسية، ولكنهم يعلون من شأن هذه العناصر أو تلك فى الثقافة السياسية المصرية، ويبغون تخطى الانحيازات المتعصبة.
لن يرضى كل الناشطين فى النظام السياسى المصرى بهذا الحل الوسط التاريخى. اللا يقين فى نتائج الديمقراطية الإجرائية لن يرضى البعض، وسيستهجن البعض الآخر الحريات ونتائجها الممكنة، وسيرفض بعض ثالث منح الأولوية للعدالة الاجتماعية الحقة، وسيهزأ بعض أخير بالمشاركة الفاعلة فى إعادة صياغة النظام الدولى. هذا شيء طبيعى فى أى نظام متنوع الأعضاء، يجب أن يكون مقبولا وأن يُحفظَ حقُ أصحابه فى التعبير عنه. صيغة الحكم فى أى بلد، إن استندت إلى أغلبية معتبرة، لا تخشى التعبير عن أى رأى، طالما كانت هذه الصيغة تحقق نتائج إيجابية ملموسة لعموم المواطنين.
الحل الوسط التاريخى حيوى إن أرادت القوى المدنية الرئيسية أن توسِّع من نطاق المجتمع السياسى المصرى وأن تزن فيه. فى دستور 2014 متسع لذلك.