تعود المسألة الكردية مع إعلان رئيس إقليم كردستان مسعود بارزانى وإصراره على إجراء استفتاء يوم 25 سبتمبر القادم بشأن الانفصال عن العراق وقيام الدولة الكردية، لتطرح ذاتها بقوة على الأصعدة الإقليمية والدولية فى الشرق الأوسط: قضية استقلال طال انتظارها بالنسبة للمكون الكردى فى العراق وقضية انفصال وتفكيك لأواصر الدولة العراقية أيا من كان فى السلطة فى بغداد.
التغييرات التى حصلت فى العراق منذ تسعينيات القرن الماضى والوضع الكردى «الاستقلالى» الذى نشأ حينذاك وكذلك تبلور دولة أمر واقع فى كردستان بعد عام 2003، إلى جانب علاقات التوتر المقيد ولو بصعوبة بين بغداد وأربيل، كانت كلها عناصر أساسية وراء هذا الإعلان. مسعود بارزانى يذكر، لرفع المسئولية عن كاهله، فى الذهاب نحو «الطلاق» وتحميل «الآخر» مسئولية ذلك، يذكر أن «الشراكة الحرة والاختيارية مع العراق لم تنجح بسبب انتهاك الشراكة والدستور ولأن الدولة العراقية مقسمة عمليا والحرب الطائفية موجودة والإقليم ليس مسئولا عما آلت إليه الدولة العراقية»، (جريدة الحياة بتاريخ 9 أغسطس).
جملة من الملاحظات لا بد من التوقف عندها عشية تنظيم هذا الاستفتاء.
أولا: إن عنصرا أساسيا شجع على ذلك، هذه المرة مقارنة مع الماضى، وهو سقوط محرمات المساس بالوحدة الترابية للدولة فى العالم العربى والشرق الأوسط، مع تقسيم السودان إلى دولتين برعاية وقبول دولى وإقليمى، لكن نسارع إلى القول إن الحالة السودانية كانت أمرا سهلا مقارنة مع الحالة العراقية التى يطرحها بارزانى نظرا لما لهذا التقسيم إذا ما حصل من تداعيات استراتيجية لا تطال دولة العراق فقط بل كل من سوريا وتركيا وإيران. تداعيات تحدث زلزالا فى المنطقة وتخلق حالة فوضى إقليمية مفتوحة على جميع الاحتمالات ومكلفة للجميع الدولى والإقليمى. ولا أدل على ذلك من بداية خلط الأوراق فى سوريا عندما لاح فى الأفق احتمال قيام إقليم أمرا واقعا كرديا فى سوريا على الحدود التركية.
***
ثانيا: إن هنالك موقفا دوليا وإقليميا برز بشكل واضح من طرف أصدقاء الأكراد فى العراق وحلفائهم الدوليين ضد التقسيم. موقف حذر من تداعيات ذلك على الأكراد وعلى الجميع ودعا إلى تأجيل هذا الأمر وهو تأجيل مفتوح بطبيعته.
ثالثا: إن إجراء الاستفتاء سيؤدى إلى حالة صدام مفتوح مع السلطة فى بغداد ويزيد من التوتر القائم. صدام لا تعرف تداعياته وانعكاساته فى ظل الصراع القائم والمتفاقم فى العراق وحول العراق.
رابعا: إن هنالك بعدا سياسيا داخليا فى الإعلان عن الاستفتاء لا يقل أهمية عن الأبعاد التى أشرنا إليها، عبر عنه بوضوح ما هو معروف من خلاف وتنافس تاريخى بين حزبى البارزانى والطالبانى إذ صرح مسئول من الحزب الأخير عن استعداد حزبه لقبول التأجيل مقابل عدد من التنازلات تقدمها بغداد. كما أن طرح الاستفتاء والإصرار عليه من طرف بارزانى مع إيحاء خجول بتأجيله أو بتأجيل تنفيذ نتائجه فيما لو حصل، ونتائجه الاستقلالية شبه مؤكدة، يبقى أيضا ورقة أساسية فى يد بارزانى فى التنافس المستمر مع طالبانى وفى محاولة الضغط على جميع الأطراف المعنية والمؤثرة فى العراق وخارجه لإعادة إعطاء أولوية للمسألة الكردية بعد الشعور بتهميشها. بارزانى يلجأ إلى ما يعرف بمفاوضات حافة الهاوية للضغط على السلطة فى بغداد وعلى أصحاب التأثير على تلك السلطة فى الخارج للحصول على مكاسب مهمة للإقليم الكردى تعزز وضعه المميز الخاص على الطريق نحو الهدف الدائم وهو الاستقلال.
***
خامسا: أيا كانت الحال فيما لو حصل أو تأجل الاستفتاء أو تأجلت عملية تنفيذ نتائجه المعروفة فإن الأزمة الكردية التاريخية خاصة فى العراق، خط المواجهة الكردى الأول مع الآخر السورى والإيرانى والتركى، تبقى أزمة كاشفة مذكرة بأزمة بناء الدولة الوطنية فى العالم العربى وكذلك بالحاجة الدائمة والملحة لذلك. فلم يعد ينفع الهروب نحو شعارات استيعابية أو إلغائية للآخر الشريك فى الوطن، أو عبر تحالفات خارجية تسمح بتجاهل مطالب مكون أساسى سواء أكان إثنيا أم طائفيا أم مذهبيا فى الوطن. صار المطلوب بإلحاح فى العراق وفى جميع الدول المأزومة علنا التى تعيش حروبا أهلية ضمن حروب أخرى، أو فى الدول المأزومة بشكل ممسوك ولو بتوتر، العمل على بلورة عقد اجتماعى جديد بين الدولة والمواطن. عقد اجتماعى يحفظ حقوق جميع المكونات الاجتماعية من خلال صيغة دستورية تضمن حقوق الجميع ضمن الوطن الواحد وتقوم على مفهوم المواطنة. الأزمة القادمة فى العراق حول الاستفتاء فى إقليم كردستان يجب أن تكون بمثابة جرس إنذار للتفكير فى بناء دولة المواطنة فى العراق وكذلك فى غير العراق. هذا هو التحدى الذى تحمله الأزمة القادمة فى الشهر القادم.