أثار قرار الحكومة الأمريكية وقف جزء من المعونة الاقتصادية السنوية لمصر، بسبب استمرار العمل بقانون الجمعيات الأهلية، غضبا عارما فى الدوائر الحكومية والإعلامية وبين الجمهور العادى. والحقيقة أنه غضب فى محله لأن القرار يمثل تدخلا غير مقبول فى شئون مصر الداخلية، خاصة حينما يأتى من إدارة أمريكية لا يبدو منها اكتراث بحقوق الإنسان أو المجتمع المدنى، لا فى أمريكا ولا فى باقى أنحاء العالم، كما أنه يعرقل تمويل مشروعات تنموية تستهدف دعم الفئات الأكثر احتياجا فى المجتمع، وهى طريقة غريبة للتعبير عن الاهتمام بالشعب المصرى وبحقوقه.
ولكن إن كان التدخل الأجنبى فى شئوننا الداخلية مرفوضا، فإن هذا لا يعنى غلق باب الحديث عن وضع المجتمع المدنى فى مصر وعن قانون الجمعيات الأهلية خوفا من الإيحاء بأننا نرضخ لضغوط خارجية، بل علينا الاستمرار فى المطالبة بإصلاح ما لدينا من مشكلات من منظور المصلحة الوطنية وحدها، وباعتبار ما يجلب المنفعة للبلد. ومن هذا المنظور فلا بد من الاعتراف بأن القانون الحالى مشكلة.
مشكلة لأنه صدر دون تشاور أو نقاش مع أى طرف لا فى المجتمع المدنى ولا بين الخبراء فى الموضوع ولا حتى بالرجوع لوزارة التضامن الاجتماعى صاحبة الولاية على الجمعيات والمؤسسات الأهلية، على الرغم من أن الوزارة كانت عكفت على إعداد مشروع قانون أكثر توازنا، وأدارت بشأنه حوارا مع عشرات الجمعيات والمنظمات ومع الاتحاد العام للجمعيات الأهلية، ولكن تم تجاهل كل هذا الجهد والدفع بقانون لم يطلع عليه أحد. وهذا ليس تسليما بأن مشروع قانون وزارة التضامن خال من العيوب أو الملاحظات، بل إشادة بمحاولة جادة قامت بها الوزارة للوصول إلى صيغة متوازنة وللأسف تم وأدها والقفز عليها لصالح القانون المعيب الصادر فى نوفمبر الماضى.
ومشكلة لأنه استحدث قيودا غير مسبوقة على نشاط الجمعيات والمؤسسات الأهلية. ومن ذلك أنه ينقض الحق الدستورى بأن يكون تأسيس الجمعيات بالإخطار لأنه لا يحدد حصرا المستندات المطلوب تقديمها (مادة ٨)، ولأنه يمنع الجمعيات من مزاولة كل نشاط يكون داخلا فى إطار عمل الأحزاب أو النقابات المهنية أو العمالية أو ذا طابع سياسى أو يضر بالأمن القومى أو النظام العام أو الآداب العامة أو الصحة العامة (مادة ١٣) مستخدما تعبيرات فضفاضة تجعل كل نشاط أهلى محاطا بعلامات استفهام، ولأنه يحيل طلبات تلقى التمويل الأجنبى إلى هيئة جديدة اسمها «الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية» (مادة ٧٢) فى تجاوز لسلطات وصلاحيات وزارة التضامن الاجتماعى، ولأنه على العكس من القوانين السابقة يعتبر عدم الرد على طلب التمويل لمدة ستين يوما بمثابة رفض له (مادة ٢٤)، ولأنه يعاقب بالحبس الذى يصل إلى خمس سنوات من يجمع تبرعات محلية (نعم محلية وليس أجنبية) بدون موافقة مسبقة (مادة ٨٧). وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ومشكلة لأنه ــ بدعوى مراقبة المنظمات التى تتخذ المجتمع المدنى ستارا لمزاولة نشاط سياسى ــ ضيق الخناق على آلاف الجمعيات والمؤسسات الأهلية والخيرية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها لتقدم خدمات صحية وتعليمية وإنسانية وتدعم الفئات الأكثر احتياجا فى القرى النائية والمناطق العشوائية. وفى وقت يعانى فيه الناس من الغلاء وضعف الخدمات العامة وانتشار البطالة بين الشباب والتحريض على الإرهاب، فإن الدولة بدلا من ان تيسر على الجمعيات تقديم حماية اجتماعية بديلة وضرورية، إذا بها تصدر قانونا يعطل نشاطها ويحرم الناس من بعض ما كان متاحا لهم من خلال النشاط الأهلى.
ومشكلة لأنه يدفع تدريجيا المنظمات الأهلية الدولية والمؤسسات البحثية العالمية والإقليمية، والتى تتنافس وتتصارع عواصم المنطقة العربية على جذبها والاستفادة من خبراتها ومواردها، إلى تصفية نشاطها والرحيل عن مصر والانتقال إلى مدن اخرى تفتح لها الأبواب وتقدم المزايا والحوافز كى تضمن الاستفادة منها. وليت المسئولين عن هذا الملف يطلبون معلومات دقيقة عن المنظمات الدولية العاملة فى شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتى رحلت عن مصر أو قلصت نشاطها أو تبحث عن مقار بديلة بسبب المناخ الطارد للعمل الأهلى.
والقانون الحالى مشكلة لأن البرلمان أقره يوم ٢٩ نوفمبر الماضى، ولم يصدق عليه السيد رئيس الجمهورية إلا فى ٢٤ مايو أى بعد ستة أشهر، ولم تصدر إلى الآن لائحته التنفيذية على الرغم من أن القانون نص على صدورها قبل ٢٤ يوليو، ولم نسمع عن مسودة لها، أو عمن يقوم بإعدادها. وهذا كله جعل العمل الأهلى فى مصر يقع فى حالة شلل تام طوال العام الماضى وهى حالة لا تزال مستمرة إلى الآن.
الوطنية ليست فقط أن نرفض تدخل الدول الأجنبية فى شئوننا الداخلية أو المساس بسيادتنا. الأهم ألا نكتفى بذلك وأن نأخذ بزمام الأمور ونصلح بأنفسنا ما لا نقبل فيه تدخل الآخرين، ونعتمد على قدراتنا وعزيمتنا كى نعالج ونصحح هذا القانون الذى ما كان ينبغى له أن يصدر من الأصل، وأن يكون دافعنا فى ذلك هو المصلحة الوطنية فقط وليس ما تضعه أطراف أخرى علينا من ضغوط وما تهددنا به من قرارات.