مصر في تجمع بريكس
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 28 أغسطس 2023 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن اللورد «جيم أونيل» سكرتير الخزانة الأسبق بالمملكة المتحدة، يتصور أن مصطلح دول «بريك» BRIC الذى أطلقه عام 2001 سوف يتحول إلى تجمع حقيقى فى عام 2006، ثم إلى تجمع «عبر إقليمى» أكبر عام 2010 أطلق عليه اسم «بريكس»، بعد ضم جنوب أفريقيا إلى كل من الصين والهند والبرازيل وروسيا.
كان مصطلح «بريكس» يشير إلى دول ذات اقتصادات كبيرة وواعدة، وأسواق واسعة ذات نفاذ ونفوذ. ظل التجمع الوليد يتلمس خطواته بروية وهدوء منذ اجتماع القمة الأول فى روسيا عام 2008، وحتى إنشاء بنك التنمية الجديد عام 2015، ثم شرع يستفيد من تلك المؤسسة التمويلية فى جذب مزيد من الدول كأعضاء مقرضين ومقترضين، وتعبئة استثمارات المجموعة فى مشروعات تنموية، يمكنها أن تنافس مؤسسات التمويل الإقليمية، ومؤسستى بريتون وودز (مجموعة البنك الدولى وصندوق النقد الدولى) المهيمنين على النظام المالى العالمى.
اجتماعات قمة «بريكس» لا تخلو من تصريحات هامة حول التعاون التجارى المشترك، وتنمية الاستثمارات البينية، واعتماد العملات المحلية فى التبادل التجارى بين الأعضاء، ومشروعات مستقبلية لأنظمة دفع وتسويات خاصة بخلاف نظام «سويفت»، الذى تم تسليحه أخيرا من قبل المعسكر الغربى فى سياق العقوبات المفروضة على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا... بل إن بعض المقترحات التى ربما يتم دراستها مستقبلا تناولت عملة مشتركة لدول التجمع، لكن بالطبع هذا المقترح البرازيلى أمامه الكثير من الوقت والمجهود حتى تتضح معالمه. لكن المؤكد أن الطفرات التى مر بها تجمع «بريكس» جاءت دائما كردة فعل لسياق دولى مشتعل بالأحداث.
• • •
بداية إطلاق مصطلح «بريك» من قبل لورد «أونيل» كان فى نفس العام الذى اهتز له العالم عقب الهجمات التى تعرضت لها الولايات المتحدة، وسطرت تاريخا محتملا لنظام عالمى جديد قيد التشكيل. كذلك كان اجتماع القمة الأول للمجموعة عام 2008 متزامنا مع أزمة الرهن العقارى الكبرى، التى ضربت العالم من خلال أسواق المال الأمريكية خلال الفترة من 2007 إلى 2009، وتركت آثارا شديدة العمق فى الاقتصاد العالمى بعد هذا التاريخ، خاصة ما استدعته من الإفراط فى استخدام سياسات التسهيل الكمى التى مارستها البنوك المركزية حول العالم، وأحدثت اختلالات سوقية مازلنا نعانى منها حتى اليوم. كذلك فإن مبادرتى الحزام والطريق اللتين أطلقتهما الصين عام 2013 تم تضمينها فى دستور الحزب الحاكم عام 2017 بالتزامن مع القمة التاسعة لتجمع «بريكس» فى الصين. تلك القمة قد جاء إعلانها مؤكدا على إنجازات القمم السابقة على صعيد تعزيز التجارة والاستثمار فى قطاعات مختارة، والتفاهمات السياسية والأمنية بين الأعضاء، ومخاطبا أوجاع الدول النامية المتعلقة بتغير المناخ، وانتشار الفساد، وتحديات التنمية المختلفة، مع التركيز على قارة أفريقيا، التى بدا واضحا أهميتها لمشروع التمدد الصينى من خلال المبادرتين المشار إليهما.
كذلك فإن القمة الخامسة عشر والتى انتهت أعمالها منذ أيام فى جنوب أفريقيا، ببيان دعوة ستة أعضاء جدد للانضمام إلى التجمع اعتبارا من يناير 2024 وهم مصر والإمارات والسعودية وإيران والأرجنتين وإثيوبيا، تأتى فى سياق عالمى مشحون بالاضطرابات، وبحالة من احتدام الخلاف بين الغرب المتقدم والشرق النامى فى أولويات قضايا مصيرية مثل تغير المناخ، والتى تجلت مظاهرها فى قمتى الأطراف السابقتين بجلاسكو وشرم الشيخ. وفى سياق اتجاه الغرب بقيادة أمريكية لتسليح الدولار ونظام سويفت ضد دول مثل إيران ثم روسيا، بتحركات فردية ودون التزام بقرارات أممية.
وبالطبع تأتى القمة فى سياق اشتعال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتى انطلقت بفرض قيود على الواردات الصينية من إدارة الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب» عام 2018 وبعد أن بلغ العجز الأمريكى السنوى فى ميزان التجارة مع الصين قمة تاريخية بالقرب من 420 مليار دولار. ثم تصاعدت تلك الحرب بشكل مضطرد حتى فرضت الصين قيودا على معدنى «الجاليوم» والجرمانيوم» الضروريين لإنتاج الرقائق الإلكترونية، كردة فعل لمحاولات الولايات المتحدة المتكررة لإخراج الصين من سلاسل الإمداد العالمية لهذه الصناعة الهامة، واعتمادها مبدأ التصنيع لدى الأصدقاء Friend shoring الذى استخدمته وزيرة الخزانة الأمريكية «جانيت يلين» فى معرض انتقادها لسياسات صينية بعينها.
• • •
إذن يتضح من السياقات المشار إليها جميعا أن دول «بريكس» وخاصة الصين وروسيا قد وجدا فيها فرصة لإعادة تشكيل النظامين المالى والتجارى العالميين وفق شروط أكثر إنصافا لدول الجنوب، وأكثر قدرة على مواجهة الأزمات المالية العالمية (غربية المنشأ فى الأساس)، وأكثر تفضيلا للدول الأعضاء والمنتظر ضمهم مستقبلا، وأقل عرضة للهيمنة الغربية وعقوبات الولايات المتحدة الأمريكية وسطوة الدولار الأمريكى. أو ربما (كما هو غير معلن) يصبح تجمع «بريكس» أكثر قدرة على تحقيق طموح الهيمنة الصينى واستعادة بعض من دور الاتحاد السوفيتى البائد وفقا لمشروعى البلدين.
كانت الدعوة الموجهة إلى مصر للمشاركة فى قمة «بريكس» عام 2017 ثم فى قمة عام 2022 تأتى فى إطار ما عرف بمصطلح «بريكس بلس»، حيث أبدى الأعضاء المؤسسون ــ وفى مقدمتهم الصين ــ رغبة فى توسعة التجمع ليكتسب زخما إضافيا بكتلة سكانية أكبر ومساحة من الأرض، لا يمكن منافستها من قبل أى تجمع عبر ــ إقليمى قائم خاصة تجمع الدول السبع الكبرى G7. المشكلة الحقيقية فى تحقيق تلك الرغبة، لم تكمن فقط فى مقاومة بعض المؤسسين لمشروع التمدد، مخافة تخفيف وزنهم فى التجمع لصالح حلفاء الصين، ولكن فى فلسفة هذا المشروع، والمعايير الحاكمة لانضمام مزيد من الدول. وقد اتضح من بيان القمة الأخيرة المنعقدة فى جنوب أفريقيا أن عشرين دولة قد تقدمت رسميا للانضمام للتجمع، فضلا عن عشرين آخرين أبدوا اهتمامهم للانضمام مستقبلا، لكن ست دول فقط قد تم قبولها كما سلفت الإشارة.
إذن مجرد انضمام مصر إلى تجمع «بريكس» فى هذه المرحلة المبكرة من تمدد المجموعة، يعد دلالة بالغة الأهمية على ثقل مصر بين المتقدمين للعضوية، وعلى الآمال المعقودة على دور مصرى حاسم لتحقيق مستهدفات تفعيل التجمع فى تلك المرحلة التاريخية من عمره، والتى تزخر بالعديد من التحديات، أبرزها وجود خلافات عميقة بين أعضائه، سواء المؤسسين أو المنضمين حديثا. فهناك الصين والهند وما هو معلوم عن نزاعهما الحدودى، وتنافسهما التقليدى. وهناك السعودية والإمارات من جهة وإيران من جهة أخرى، وما لست فى حاجة إلى بيانه من شقاق تاريخى عميق، ثم هناك مصر وإثيوبيا وخلافات سد النهضة التى لم تحسم بعد.
وإذ ترى الولايات المتحدة أن تلك الخلفية من الصراعات، وما نشأ عنها من تباين حاد فى مواقف دول «بريكس» حيال القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، سوف يكون عامل هدم واضح للتجمع، فربما يرى البعض أن تلك الخلفية هى فرصة لكتابة شهادة ميلاد حقيقية للكيان الجديد، إن استطاع أن يحتوى بعضا من خلافات أعضائه على مائدة مفاوضاته، وأن يستبدل النزاع بالمصالح المشتركة، وأن يبلور مواقف متناسقة لأعضائه حيال مختلف القضايا المصيرية مثل تغير المناخ وأزمة الدين العالمية، وأن يشكل التجمع فى صورته الجديدة قوة تفاوضية لا يستهان بها لإعادة رسم خريطة العالم، بصورة أكثر توازنا بين الشمال والجنوب.
أما عن الفوائد الإضافية لانضمام مصر إلى «بريكس»، فيمكن أن تمتد إلى تحقيقها لشروط أفضل فى التجارة والاستثمار بين دول التجمع، شريطة ان تعمد إلى تخفيض العجز التجارى فى السلع والخدمات مع تلك الدول. كما يمكن أن تسمح العضوية بجعل مصر مقصدا ذا ميزة تفضيلية لمستثمرى وسائحى الدول الأعضاء، بما يساعد على حل أزمة النقد الأجنبى فى البلاد. كذلك يتيح استخدام الدول الأعضاء لعملاتها الوطنية فى التبادل التجارى فيما بينها، فرصة لتخفيف الضغط على الدولار الأمريكى (خاصة بغرض المضاربة وتخزين القيمة)، ويكون نظام المدفوعات المزمع استخدامه لتعاملات «بريكس» الموسعة بمثابة فرصة للخروج من قبضة النظام المالى أحادى القطبية، وتخفيض تكلفة المعاملات.
وعلى الصعيد السياسى والأمنى، فمن المحتمل فى ظل ما تقدم من ملابسات الطفرات التى حققها التجمع، أن يكون الأعضاء المؤسسون أكثر حرصا على التوظيف السياسى والأمنى لقوى المجموعة، بما يعزز من النفوذ الدولى والإقليمى لمصر. أما عن عضوية مصر فى بنك التنمية الجديد، فهى منفذ للتمويل بشروط (نتمنى أن تكون) أفضل من شروط المؤسسات الدولية والإقليمية القائمة، كما نتمنى ألا تكون سببا فى زيادة حجم الدين الخارجى لمصر، بل وسيلة للتمويل عبر أدوات مختلفة منها المشاركة والتصكيك.
• • •
كل تلك المزايا وغيرها مرهون بنجاح تجمع «بريكس» فى التغلب على تحديات استمراره وفاعليته، وبقدرة مصر على استغلال خطوة الانضمام لتحسين مركزها التجارى والمالى بين دول التجمع، وبعدم استنفار الغرب (ولو فى الأجل القصير) ضد الكيان المتنامى، باعتباره عدوا محتملا لمشروعهم وهيمنتهم على النظام العالمى.