بريكس ونهاية الدولرة
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 28 أغسطس 2023 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
على استحياء، واصلت القمة الخامسة عشرة لمجموعة «بريكس»، بجنوب أفريقيا، مباحثات أعضائها الخمسة، الذين يمثلون نحو 42% من سكان العالم، و24% من ناتجه المحلى الإجمالى، و18% من تجارته؛ بشأن الانعتاق من هيمنة الدولار الأمريكى على التجارة الدولية. وذلك من خلال تكريس استخدام العملات المحلية فى التجارة البينية، إنشاء نظام مدفوعات مشترك، وتشكيل لجنة فنية للنظر فى إصدار عملة موحدة. خصوصا بعدما تراجع نصيب الدولار، ضمن احتياطات النقد الأجنبى العالمية، من 73% قبل عقدين، إلى 60%، خلال الربع الثالث من العام الماضى.
تعود المساعى الرامية لتقويض هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمى، إلى ما قبل ظهور «بريكس» عام 2007. وذلك انطلاقا من دوافع شتى، أبرزها: الآثار المالية والاقتصادية المؤلمة، التى تتربص باقتصادات الأسواق الناشئة والنامية، جراء إصرار واشنطن على احتواء موجاتها التضخمية المتكررة، عبر رفع أسعار الفائدة. علاوة على استغلالها هيمنة الدولار، كأداة من أدوات سياستها الخارجية، ابتغاء بلوغ مآرب جيوسياسية. ومن ثم، لم تتورع الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن توظيف الحرب التجارية والتكنولوجية ضد الصين، لإعاقة صعود الأخيرة كقطب عالمى. ولما كانت بنوك الدول، التى تتعامل مع التدفقات الدولارية عبر الحدود، تحتفظ بحسابات لدى مجلس الاحتياطى الفيدرالى، فإنها تبقى فى مرمى العقوبات الأمريكية، إذ تظل احتياطاتها الدولارية، عرضة للمصادرة من قبل الأمريكيين. فبجريرة حربها على أوكرانيا، جمدت الولايات المتحدة وأوروبا ما قيمته 300 مليار دولار من عملات روسيا الأجنبية واحتياطياتها من الذهب، وتم عزلها عن النظام المالى العالمى، الذى تهيمن عليه واشنطن. ما عزز احتمالات مصادرة الأصول الخارجية للدول، التى لا تتناغم سياساتها مع المصالح الغربية. وفى زيادة لافتة عن سابقاتها، أدرجت إدارة بايدن نحو 1151 كيانا وفردا جديدا ضمن قائمة العقوبات الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية. ما دفع بدول عديدة، للبحث عن بديل تحتفظ فيه باحتياطيات النقد الأجنبى لديها، بعيدا عن العملة الخضراء.
منذ تأسيسها، لم تتوقف جهود المجموعة لمجافاة الدولار الأمريكى ففى عام 2010، دشنت «آلية التعاون بين بنوك دول بريكس»، بهدف تسهيل المدفوعات بينها بالعملات المحلية. كما بدأت فى تطوير «بريكس باى»، كنظام مدفوعات داخلى تتم المعاملات من خلاله بمنأى عن الدولار. وقد لجأ أعضاء لاستخدام عملاتهم الوطنية لتسوية المعاملات التجارية فيما بينهم، أو مع دول من خارج التجمع. وبعد فرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية على روسيا، وتجميد أصولها الدولارية بالخارج، ومنعها من الوصول لنظام المراسلات المالية العالمى «سويفت»، بدأت دول عدة تتحسب لاحتمال تعرضها لإجراء أمريكى مماثل، فانبرت فى تقليص اعتمادها على الدولار، عبر اتفاقات تبادل بالعملات المحلية مع شركائها. وفى ذات السياق، بدأت «بريكس» تتحدث عن إطلاق عملتها الموحدة.
أنشأت دول المجموعة عام 2014، «بنك التنمية الجديد»، لتوفير التمويل بالعملات المحلية للدول الأعضاء. ويضم البنك حاليا تسعة أعضاء، بعدما التحقت بعضويته كل من مصر، الإمارات، بنجلاديش، والسعودية. وكجزء من خطته لتقليل الاعتماد على الدولار، وإرساء دعائم نظام مالى دولى متعدد الأقطاب، أصدر البنك سندات بعملات الدول الأعضاء، كما يخطط للإقراض بعملتى جنوب أفريقيا والبرازيل. مستهدفا رفع قيمة ما يقرضه بالعملات المحلية من 22% حاليا إلى 30% من محفظة البنك الائتمانية. وفى مسعى لتمييز نفسه عن البنك وصندوق النقد الدوليين، يتلافى البنك أية مشروطية سياسية على القروض.
وفى يونيو الماضى، ناقش وزراء خارجية دول «بريكس»، خلال اجتماعهم التحضيرى لقمتهم الخامسة عشرة، الأدوات التى يمتلكها التكتل للتخلص من هيمنة النظام الاقتصادى العالمى، وتكثيف استخدام العملات البديلة لإنهاء هيمنة الدولار على التجارة الدولية. مؤكدين، فى الوقت ذاته، طموح «بريكس» لمنافسة القوى الغربية، وبناء عالم متعدد الأقطاب، يعيد التوازن إلى النظام الدولى. وهو ما أكد عليه، الرئيس الروسى، إبان مداخلاته الافتراضية، بفعاليات القمة. وفى كلمته أمام جلستها الافتتاحية، دعا الرئيس البرازيلى، إلى إنشاء عملة مشتركة للتجارة والاستثمار بين دول المجموعة، بغية الحد من تعرضها لتقلبات أسعار صرف الدولار، زيادة خياراتها للدفع والتقليل من نقاط ضعفها.
عديدة هى التحديات، التى تعترض مساعى «بريكس» للاستغناء عن الدولار، وتبنى عملة موحدة بديلة. فمن جهتها، تأبى الهند المشاركة فى عملة موحدة يهيمن عليها خصمها الصينى. وتعارض دلهى تسليم قيادة المجموعة لبكين، صاحبة ثانى أضخم اقتصاد فى العالم، والذى يشكل أضعاف اقتصادات بقية دول «بريكس» مجتمعة. ولقد أجهضت الهند تضمين بند طرح عملة موحدة للمجموعة على جدول أعمال قمتها الأخيرة. إذ رفضت التخلى عن عملتها الوطنية، مقابل ما وصفته «التجريب النقدى» بعملة مدعومة بالذهب. وبرغم ما تبديه روسيا والبرازيل، من حماسة للعملة الموحدة، إلا أنهما يفضلان التبادل بالعملات المحلية، على تسليم مقود سياستهما النقدية للتنين الصينى.
تقنيا، قد يتعذر ربط العملة الموحدة المقترحة للمجموعة بالذهب؛ خصوصا بعد تخلى النظام المالى والنقدى العالمى عن قاعدة الذهب مطلع سبعينيات القرن الماضى، وتعذر إمكانية العودة إليها مجددا. فى ظل محدودية رصيد الذهب المتاح عالميا، وتنامى الحاجة الدائمة للتوسع فى توفير النقد المتداول لأغراض التمويل. ناهيك عن عقبات أخرى تتعلق بتباين الأنظمة الاقتصادية لبلدان المجموعة. وبينما ترنو الأخيرة إلى زيادة التبادل فيما بينها بالعملات الوطنية، سيظل سعر صرف تلك العملات، مقوما بالدولار واليورو.
لإن كانت العملة تضطلع بأدوار عدة، كوحدة للحساب، مخزن القيمة، ووسيلة الدفع؛ فإن توجه «بريكس» لاستبدال الدولار، يتطلب خطوات إجرائية أولية مهمة. أبرزها: إنشاء بنك مركزى موحد، توحيد السياسات النقدية، والوصول لتفاهمات سياسية واقتصادية بين أعضاء المجموعة وشركائهم. وفيما يتحفظ جلهم على إمكانية قيادة الصين للمجموعة، أو استضافتها مقر البنك المركزى المقترح؛ تظل العملة المبتغاة بحاجة إلى قابلية التحويل بحرية إلى الأصل الداعم بسعر صرف ثابت، كما إلى سندات مضمونة من قبل دول المجموعة. وأن يصدرها البنك المركزى المقترح، ويتم تقويمها بآجال استحقاق وأسعار فائدة مختلفة. وبينما ستستغرق حينا من الدهر، لترسيخ الثقة فى فعاليتها، لا يفتأ الأخضر يهيمن على 42% من مبادلات العملات العالمية، و90% من معاملات «الفوركس» العالمية، و60% من احتياطيات البنوك المركزية العالمية. ولا تزال أنشطة إقراض بنك «بريكس»، التى تتم 78% منها بالدولار، تعانى شحا فى السيولة النقدية. حيث قدم قروضا لمشاريع البنية الأساسية وغيرها فى الدول الأعضاء، بنحو 33 مليار دولار. وخلال قمتهم الأخيرة، حالت الخلافات البينية بشأنها، دون حسم دول «بريكس» موضوع العملة الموحدة المقترحة.
ليس العالم بوارد التخلى كلية عن الدولار، فى المدى المنظور. فحتى الآن، لم يتوفر بديل يتمتع بما تحظى به العملة الأمريكية من حجم تعاملات هائل، سيولة متدفقة وسهولة التحويل والتداول فى أسواق المال. ويتخوف أعضاء فى «بريكس» من الارتدادات الموجعة لاحتمالية تدهور الدولار؛ كانهيار معيار الذهب، وارتفاع أسعار الصرف المعومة، خلل الحسابات الجارية، عجز الميزانيات، واندلاع أزمة مالية عالمية. وبناءً عليه، يبدو قرار «بريكس» التخلى عن الدولار، سياسيا بامتياز، كما وصفه محافظ البنك المركزى الجنوب أفريقى. ومن ثم، تعوزه الواقعية الاقتصادية، التى تستوجب إصلاحا جذريا لمؤسسات الحوكمة العالمية؛ يواكبه تفكير فى تقليص الاعتماد على الدولار، بدلا من التخطيط للتخلى عنه نهائيا. وهو ما عبرت عنه، ديلما روسيف، الزعيمة البرازيلية السابقة، ومديرة بنك «بريكس» حاليا، بقولها: «إن استخدام العملات المحلية ليس بديلا للدولار، بقدر ما هو محاولة للانتقال من نظام عالمى أحادى القطب، إلى آخر متعدد الأقطاب».