الجامعة والخوف وأنا
أمل حمادة
آخر تحديث:
الإثنين 28 سبتمبر 2015 - 8:35 ص
بتوقيت القاهرة
أكثر من عشرة أيام مروا وانا افتح جهاز الكمبيوتر لكتابة هذا المقال، ثم اتوقف، واغلقه، وأتشاغل بالحياة، إلى أن يدفعنى الخوف مرة ثانية وثالثة وعاشرة إلى فتح الجهاز ومحاولة الكتابة. اليوم استجمعت شجاعتى وقررت ان اواجه خوفى وأن أكتب عن الجامعة. سيفهم خوفى من قضى مثلى ربع قرن أو أكثر فى رحاب الجامعة، سيشعر به يتسلل ليحيط بجدرانها ويقف حاجزا بين طلابها، ويثقل عقارب ساعة جامعة القاهرة لتبطئ وتكاد تتوقف. ولكن دعنى أفصل لك عزيزى القارئ لماذا أخاف، ويخاف آخرون فى الجامعة بعد أقل من خمس سنوات على اندلاع الثورة فى يناير ٢٠١١. تلك الثورة التى تخيلنا معها أنه لا مكان للخوف فى مصر بعد سقوط حسنى مبارك.
أخاف على فقدان حالة التنوع الفكرى والطبقى والإثنى والدينى التى كانت تميز الجامعات الحكومية، علمنى اساتذتى فى التنمية السياسية أن للتعليم دورا هاما فى تحقيق التكامل الوطنى وغرز فكرة المواطنة. فالمؤسسات التعليمية الوطنية بكونها حاضنة للطلاب بخلفياتهم المختلفة تسمح لهم باستيعاب تنوع مجتمعاتهم المحلية وتبادل خبراتهم ودعم شخصية وطنية ثرية. تتواتر اخبار وشائعات عن منع غير القاهريين من الالتحاق بجامعة القاهرة وبمفهوم المخالفة منع القاهريين من الترحال لطلب العلم خارج جامعات مدينة القاهرة الكبرى. هل أدرك صانعو هذا القرار ومتخذوه تداعيات مثل هذا الفصل بين طلاب ليس لهم فضل فى انهم ولدوا بالقاهرة، وطلاب ليس لهم ذنب انهم ولدوا خارجها. هل فهم الجميع مصادر خوفنا من ان نستيقظ ذات يوم لنجد كل الطلاب يشبهون بعضهم البعض حد التطابق، لا يمتلك أحدهم خبرة أو حكاية أو نوع طعام أو لكنة تسمح لنا بفهم افضل لمجتمعاتنا. اكتشفنا بعد درس شاق ان ثورتنا هزمت لأننا لم نعرف بعضنا بشكل واعٍ أو كافٍ، وبدلا من ان نبذل مزيدا من الجهد للفهم والاستيعاب والتعرف على بعضنا البعض وجدنا انفسنا ندافع عن جزرنا المنعزلة ونضيف اسوارا فوق اسوار الجهل والعزلة القديمة.
قد لا تكون فكرة التوسع فى انشاء كليات جديدة فى اقاليم مختلفة فى مصر فكرة سيئة من حيث المبدأ، فالمدافعون عن هذا المبدأ يرون فيه مقاومة محمودة لسيطرة المركز والعاصمة واحتكارهما للأفكار والنخب واستنزافها للعقول والقدرات من المجتمعات المحلية لصالح العاصمة. ولكن هل الفلسفة الحاكمة لإنشاء هذه الكليات تتبنى هذا المنطق، فى نفس الوقت الذى ترغب فيه فى نقل خبرات العاصمة إلى المناطق المختلفة، وتسمح بالانتقال الحر بين المقيمين فى العاصمة وغيرها بين هذه الكليات لتحقيق التكامل الوطنى. أم ان المنطق هو «الحفاظ على العاصمة من الازدحام الذى يسببه غير القاهريين» فى سعيهم للحصول على العلم؟ والإبقاء على حالة الخلل الوظيفى بين المركز والمناطق الطرفية وإبقاء الأخير فى موقع الضعيف المعزول غير القادر على التأثير والحركة. ألا يدعو هذا للخوف؟؟
***
أخاف على حريتى فى البحث العلمى والتنقل الحر بين الافكار والمدارس والخبرات، فى ظل نظام ومجتمع يضيق صدره بالاختلاف، ويعمل على توجيهنا جميعا لنشعر بنفس المشاعر، ونؤمن بنفس الافكار، وندرس ما يقوله لنا الكبار. كتب زملاء واساتذة عن صدمتهم لفصل قامات كبار من جامعة القاهرة، ومنع آخرين من التدريس، والقبض على زملاء ينتمون لتيارات فكرية نختلف معها، ويتناقش الجميع فى القرارات الجديدة التى تصدر كل يوم لتعارض بعضها البعض، ولتبلغنا كيف نعمل، ومن نحاور، بما يزيد احساس الخوف وهو ما يتعارض من حيث المبدأ مع فكرة العلم الذى لا ينمو إلا فى مجتمعات حرة ومطمئنة.
يرتبط تطور العلم سواء العلم الطبيعى أو الإنسانى بقدرة كل من الأستاذ والطالب على طرح الأسئلة الجديدة وذات الصلة بالواقع المعاش، ويعتمد الطالب على الأستاذ لتطوير أدوات وافكار ومناهج تمكنه من الحصول على المعلومة وتطويرها فى مراحل تالية. فى اجواء يخاف الطلاب فيها من الاعتقال ومن المستقبل ومن قدرتهم على الحلم، ويخاف الاساتذة من تهم الاختلاف والاعتقال والفصل ومن مساعدتهم للطلاب؛ كيف يمكن للاثنين ان يساهما فى تطوير العلم وتطوير مجتمعاتهم. لا نبالغ حين نقول إن استمرار حالة الخوف هذه من شأنها أن تهدد استمرار الدولة نفسها. فمن يخاف لن يتحرك ولن ينتج وبطبيعة الحال لن يبتكر وسينتهى الامر بنا جميعا إلى مزيد من الغرق فى هذه الدائرة.
***
عام دراسى يوشك أن يبدأ وطلاب فقدوا الأمل فى الحراك الاجتماعى نتيجة حالة الاقصاء الجغرافى أو الاقصاء المجتمعى أو الإقصاء السياسى. كيف يمكن لنا أن نستعد له؟ كيف يمكن أن نقاوم الخوف حتى لا يتحول إلى صديق مقيم معنا وبيننا؟
قد أكون مبالغة فى احساس الخوف، وقد يكون الشباب أحسن حالا، فقدرتهم على المقاومة والحلم أكبر وأقوى. ولكن يقولون إن أول علاج المشكلة الاعتراف بوجودها. اعترف إنى خائفة، وتزيد أسوار الجامعة الخضراء والسوداء خوفى، وأرتعب حينما أتوقع ألا أجد بين طلابى الجدد من لا يشبهنى، ولكنى أعرف أيضا أنى لن أظل خائفة. فمريم التى تحارب الكبار للاعتراف بدرجاتها فى الثانوية العامة، وإسراء التى يصلنى صوت ضحكتها رغم صفحات الجرائد الباردة، وعلى الذى رفض المعاملة السيئة فى احد التجمعات الثقافية، ومهند الذى يطلب العلم ولو فى الصين، وغيرهم كثر استمد الشجاعة منهم، وأعلم ان خوفى مؤقت ولو بعد حين.