ثلاثون من أفضل المتخصصين بين مواطنى المنطقة العربية اجتمعوا على امتداد يومين لمناقشة مسألة التعددية والتنوع فى بلادهم واقتراح توصيات تكفل أمن جميع المواطنين على اختلاف هوياتهم العرقية والدينية والمذهبية. جاء الثلاثون من مجتمعات بعضها تمزقه حروب أو فتن أهلية وبعض آخر يئن تحت أعمال قمع وتعذيب وحرمان من ممارسة حقوق الإنسان بحجة المحافظة على وحدة الدولة. قليلون بين المجتمعين جاءوا من بلاد الهجرة مزودين بتجارب متباينة لإدارة التنوع ومدفوعين بطاقة وفيرة من الحنين والعطف.
***
أثار انتباهى أن غالبية الحاضرين فى القاعة المغلقة مثل كثيرين فى شتى الجامعات ومراكز الفكر ومئات الأفراد الذين يسيطرون على مصادر الثروة والسلطة فى العواصم العربية، غالبية هؤلاء غير مكترثين بحقيقة أنه فى مثل هذه الأيام قبل مائة عام وقعت أحداث انتهت بأن يقوم أجانب برسم حدود سياسية فى المنطقة العربية، ليعيش على جنباتها بشر متنوعى الهوية لم يستشرهم أحد. استند الأجانب فيما يبدو إلى خبرات وتجارب موظفى إدارات الاستعمار فى بلاد الغرب، ولعلهم بحثوا مع عائلات كبيرة فى الجزيرة العربية فكرة إقامة خلافة إسلامية جديدة تكون هذه المرة عربية وإن بصناعة غربية. لم تفلح الفكرة واستقر الرأى على خريطة تقسيم تسرب بسببها إلى الإقليم مشروع الدولة القومية ثم أيديولوجية القومية العربية.
***
استطاع موظفو الاستعمار إدارة مسألة التنوع بكفاءة نسبية باستخدام تراث الإمبراطورية العثمانية بالإضافة إلى تراثهم التقليدى الغربى واستفادوا من عدم وجود منافس دولى قوى أو تهديد داخلى شديد. اعتمدوا خلال مرحلة الحكم الاستعمارى المباشر على قوة القمع ودهاء سياسات فرق تسد. منحوا الأهالى الاستقلال عندما اتضح لقادة دولهم أن قيادة الغرب انتقلت خلال الحرب للولايات المتحدة، وأن حقوقا كثيرة فى الشرق الأوسط والتزامات أكبر سوف تذهب اليها. استعدوا للانسحاب وقبل إتمامه أنشأوا أو ساهموا فى إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية، لترسخ مفهومين فى وقت واحد أولهما الهوية القُطرية داخل حدود الكيان الواحد والثانى العروبة كهوية عابرة للحدود. لم يكن الانسحاب سهلا ولا كان انتقال الهيمنة بدون كلفة عالية. اشتد ساعد الشعور الوطنى القُطرى من جانب وصارت العروبة أيديولوجية مقاومة لمحاولات القوى الغربية تمكين الهيمنة فى صور جديدة وإخضاع الإقليم للولايات المتحدة فى شكل أحلاف وانقلابات عسكرية وتدخل سافر فى الشئون الداخلية لدول لم تستكمل مسوغات استقلالها وإن مستمتعة برموز سيادة شكلية. استمرت الهوية القُطرية تتدعم وكذلك الهوية القومية فى تلازم غريب وتحالف مثير يتجاهل وجود الهويات الأخرى «النائمة» فى أماكن والمتحفزة فى أماكن أخرى.
***
فى الشرق العربى كما فى أمريكا الجنوبية انتهزت الطبقات الحاكمة وقادتها سواء كانوا من الوطنيين التقدميين أم كانوا من التقليديين والدينيين فرصة الحاجة الأمريكية، والغربية عموما، إلى فرض الهيمنة واستغلال الثروات المحلية، انتهزوا هذه الحاجة لإبقاء الهويات الأولية أو غير الغالبة تحت السيطرة.
كانت الذريعة دائما أن الخطر الإمبريالى محدق ويهدد عملية بناء الدولة. كذلك كان الخطر الشيوعى القادم من الخارج فى شكل مؤامرات يدبرها أو ينشطها الاتحاد السوفيتى فى إطار حرب باردة مشروعة بين الدولتين الأعظم. عشنا كدول شبه مستقلة عقودا لم يسمع فيها الرأى العام العالمى عن الأحوال المتردية التى كان يعيش فيها السكان الأصليون فى أمريكا الجنوبية، وعن أحوال مماثلة يعيش فيها مواطنون فى أقصى جنوب العراق وأقصى شماله وآخرون فى دول عربية أخرى. وكنا إذا سألنا قيل لنا إنها مسئولية امريكا والغرب أو مسئولية الشيوعيين والمخربين أو مسئولية الصهيونية وإسرائيل وعملائهما.
***
الخارج بالفعل مسئول إلى حد كبير. الغرب تحديدا مسئول أكثر من غيره من قوى الخارج لأنه لم يرفع يده الثقيلة عن هذه المنطقة منذ بدأ مسيرة الاستعمار واكتشف وجودنا على الطرق المؤدية إلى الشرق الأبعد. مسئول أيضا عندما أخضع الإمبراطورية العثمانية للتفكيك ووضعنا تحت حمايته أو وصايته مستعمرا أصيلا أو بالانتداب.
لم نشارك فى صنع الاتفاقات والمواثيق التى غيرت وجه ومسيرة وأسلوب حياة الملايين من أهالى الشرق الأوسط منذ قرب نهاية الحرب العالمية الأولى. صاغ لنا آخرون، أو ساعدونا فى صياغة، معظم دساتيرنا وقوانين بلادنا. اختاروا لنا، أو أشرفوا على اختياراتنا من مناهج التعليم وأنواعه، دربوا كل جيوشنا وصنعوا كل أسلحتنا. قاوم منا من قاوم ونجح بعضنا فى تحقيق درجة أو أخرى من استقلال الإرادة بثمن كان فى معظم الحالات باهظا. ساوم البعض منا ولم يحصل من قوى الخارج وبخاصة قوى الغرب إلا على القليل لضعفنا وانقساماتنا وإصرار معظم الحكام العرب على التمسك بذهنية الاعتماد على الغرب، اعتمدوا عليه عندما كان يزود أعداءهم بالعتاد والارشاد، وتوسلوا إليه بعد ثبوت فشله وانكساره أن يرضى فيبقى على أرضهم ولو ببعض جنده وسلاحه.
***
آن لهذه العلاقة أن تتغير خاصة بعد أن تغيرت الأسس التى قامت عليها. تغيرت الأسس فى الثلاثين عاما الأخيرة كما لم تتغير أسس فى نفس المدة فى عصور سابقة. الغرب لم يعد الغرب الذى عرفناه وسلمناه أقدارنا وثرواتنا ودفاعاتنا. اختلت مختلف حسابات القوة الدولية. انحدرت دول عظمى وصعدت دول كبرى. هبت العولمة كعاصفة هوجاء فخربت ودمرت ربما بقدر أو بأكثر مما طورت ونفعت. دفعت أكثر المجتمعات وما تزال تدفع الثمن غاليا من وحدة شعوبها وتعايش هوياتها. اتسعت فجوات اللامساواة فى الدخول بين الدول وبين الطبقات وبين الأفراد حتى هددت أمن واستقرار جميع دول الغرب بدون استثناء. الديمقراطية كقوة ناعمة بتطبيقاتها المتعددة فى دول الغرب لم تعد مرغوبة كما كانت من قبل. يندر أن توجد دولة صاعدة لا تجرب نماذج أخرى فى الحكم غير الديمقراطية، نماذج تنجذب إليها معظم أنظمة الحكم العربية، تحبذها وتفضلها على النموذج الغربى. يزداد الرفض للديمقراطية الغربية فى الدول العربية ودول أخرى مع كل زيادة فى ميل شعوب الغرب لتبنى وممارسة أفكار وبرامج شعبوية تنهض على حساب المؤسسات الديمقراطية، المثال الأبرز والمتكرر والمؤثر أكثر من غيره تقدمه الحملات الانتخابية الجارية الآن فى عديد من الدول الغربية.
***
كثيرة هى الشواهد الدالة على أن الغرب فقد أرصدة هائلة من قوته ونفوذه خلال العقود والسنوات الأخيرة. كثيرة أيضا هى بالتالى دوافعنا لمطالبة القادة العرب وقوى الضغط الشعبى بانتهاز الفرصة لتوظيف «غرب مستأنس» نسبيا، أى توظيف مهارات بعض خبرائه وبعض حاجاته ومصالحه فى منطقتنا ودواعى أمنه وخوفه من غزوات شعبية تحملها قوارب بدائية تنزل على شواطئه الجنوبية، توظيفها لخدمة ما نعتقد نحن العرب أنه ضرورى من أجل مستقبل نحن نصنعه. مستقبل نرسم لأول مرة خريطته بأنفسنا، ونسعى لكسب الدعم الدولى لها من قوى عديدة صاعدة فى آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية ومن غرب أوروبى وأمريكى يتغير وبسرعة.
***
رغم قتامة الصورة، أو ربما بسببها، تتجدد الدعوة الموجهة إلى مجلس جامعة الدول العربية على أى مستوى يختاره القادة العرب ليجتمع فى انعقاد متواصل حتى يتوصل إلى رؤية موحدة لخريطة جديدة للشرق العربى. يستعين بخبراء مستقلين، أى يتمتعون بصلاحية إبداء الرأى الحر وخبراء أجانب أيضا مستقلين وغير خاضعين لالتزامات تفرضها علاقة بأجهزة استخباراتية. تبدأ المرحلة التالية بدعوة مؤتمر قمة إقليمى يضم إلى جانب القادة العرب قادة دول الجوار الجغرافى وخبرائهم وقادة مختارين من دول الغرب والدول الصاعدة يعتمد خريطة النظام العربى ويرسم حدودا جديدة لنظام شرق أوسطى قاعدته النظام العربى.
***
لا يوجد عندى أدنى شك فى أن خريطة جديدة للشرق الأوسط سوف تظهر عند نهاية نفق الحروب الدائرة فى سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيناء مصر، خريطة بحدود تختلف مساراتها وتعرجاتها عن الحدود الراهنة وبتوزيع للشعوب «على الهوية» يختلف عن التوزيع الذى انعكس فى لوحة الفسيفساء التى نشأنا عليها. كذلك لا أشك للحظة واحدة فى أن المتفاوضين فى الغرب على مستقبل مشكلة المهاجرين إلى الغرب أو على وقف الحروب فى الشرق الأوسط أو زيادة إشعالها ناقشوا أكثر من مرة ضرورة فصل جماعة سكانية عن أخرى وتغيير مسيرة خط حدود وضم أراضى وعزل أخرى. هناك فى الغرب وربما فى روسيا كذلك يفكرون بالنيابة عنا فى تفاصيل خريطة أو أخرى، بينما نحن أهل المنطقة وقادتها ومفكروها لا نفعل شيئا، سوى انتظار خريطة جديدة يرسمها أجانب لتحل محل خريطة رسموها قبل مائة عام.