مساء فاتن
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 28 سبتمبر 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
كانت السماءُ حالمةً، والقمر يطلُّ مِن الفضاء بهيًا، ويسبغ ضوءه على الصاحين، والحال مِن اللذة بمكان واللذة في دوام لا يزول؛ لا يعكر الصفو غبار، ولا يهدم الهناء عابر، ولا شاغل إلا الصباح القادم، وما يلزمه من جد واجتهاد، ومن عدة وإعداد.
***
وقفت فاتن في منتصف الصالة، وشردت دقيقة إلا قليلا، ترتب في رأسها ما لا ينبغي أن تنسى، وما لا بد أن يكون؛ إذ هي تعد ابنتها لصباح المدرسة؛ صباح ولا ريب مشهود. فكرت أولًا في الملابس التي اشترتها بمعجزة، وفيما قد يحل بها مع شقاوة الأطفال ولعبهم؛ فارتأت أن من الأوفق استدعاء البنت، وإملاء النصائح عليها واحدة وراء الأخرى؛ تجنبًا لما قد لا تحمد عقباه، وما قد لا ينفع معه دمع أو ندم. لم تعد تفهم ما يمارس العيال من ألعاب هذه الأيام؛ ازدادوا عنفًا وسماجة، حتى لا تكاد تميز اللعب الخفيف اللطيف، من العراك حامي الوطيس؛ لذا وجب الاحتراس، و...... .
امتثلت البنت من النداء الأول، وهرعت إلى أمها في حماسة حقيقية، متأهبة لتلقي التوجيهات والتعليمات وحفظها عن ظهر قلب. وقفت منتبهة مفرودة، فيما فاتن تستجمع أفكارها المتدافعة، وترصها رصًا كقوالب الطوب: الشد والجذب ممنوعان، واللعب عامة مكروه، أما الجلوس على الأرض فدونه الرقاب. الحفاظ على الملابس الجديدة ونظافتها وسلامتها من الأدب والإيمان، لا يسمح فيها بمزق أو قطع، ولا ببقعة دائمة بالطبع؛ تلك ملابس السنة كلها، ولا فائض لابتياع طاقم إضافي.
***
الدكة الأولى مقدسة، والجلوس في الدكك الخلفية غير مقبول، أما النوم في الفصل فعقابه رهيب، وإن لم يكن هناك معلمون؛ لا يدري أحد فقد تتطاير معلومة من هنا أو هناك، وقد يشملها الامتحان، وربما تتسبب غفوة قصيرة غير مقصودة، في ضياع درجة عظيمة مضمونة.
السور في الأدوار العلوية خطر مخيف، مثله مثل الأشكيف؛ لا اقتراب منه، ولا اتكاء عليه، وإذا كانت هناك فرصة؛ فلا داعي لنزول الفسحة؛ البقاء في الفصل أكرم وأسلم؛ يجعل لها بين بقية التلاميذ مكانة وقيمة، والأهم أنه يعطيها ميزة مراقبة الحقيبة؛ صحيح أنها باقية معها من السنة الماضية؛ لكن عليها أن تبقى أيضًا للسنة القادمة وربما أكثر.
***
أخيرًا جاء دور الطعام؛ تركته فاتن للنهاية إذ هو أصعب المهمات وأشقها منذ صارت ابنتها تلميذة؛ لا على الميزانية المتهافتة فقط، بل وعلى النفس أيضًا. القاعدة الأولى؛ لا طعام من الكانتين، ولا وجبة تأتي من أي مكان سوى البيت؛ في المطبخ كل ما تريد، أو على الأقل بعض ما تريد، أما تبعات البسكويت الفاسد والبطاطس منتهية الصلاحية؛ فلا حاجة لها بها، ولا قدرة لفاتن على تحملها وتصحيحها. صاحت البنت للمرة الأولى منذ أن امتثلت أمام أمها: "هاخد إيه معايا بكره في اللانش بوكس؟"
سبت فاتن ولعنت في سرها؛ اقتحم اللانش بوكس ذات مساء حياتها، ولم تكن قد سمعت به من قبل؛ فأورثها الجنون وأحال مساءاتها إلى ألغاز يومية، يجب عليها حلها. "ها حضر لك كل اللي بتحبيه". ردت على البنت وهي ترمي ببصرها من النافذة؛ كان القمر في نصف اكتمال يجاهد لرسم الدائرة، بينما الشوائب والجزيئات التي علقت في الفراغ، تخلق أمامه غيمة رقيقة هائمة.
***
صرفت البنت متجنبة أن تخزلها وراحت تعبث بمحمولها، وتفكر في محتويات الثلاجة المتواضعة. وصلتها رسالة من صديقة قريبة، تحمل فيديو قصير، فتحته فاتن لتسري به عن نفسها لعل فيه مزحة أو تسلية، فوجدت امرأة مثلها تقريبًا؛ لا تتكلف في جلستها، ولا تلوي لسانها. امرأة ترتدي زيًا عاديًا يشبه ما على فاتن وصاحبتها وجاراتها، وتبشر مشاهديها بطريقة سهلة موفرة، وسريعة، لتحضير اللانش بوكس. انتبهت فاتن مرهفة سمعها، وقد تعلق قلبها بالمرأة وهي تشرع في الوصف: "تجيبي رغيف العيش وتقسميه نصفين كده، تحطي الجبنة الرومي كده في نص الرغيف، وتدخليه الكيس البلاستيك كده، ومعاه خياره كده، وتفاحة من المعفن ده، ولو عندك باكو بسكويت.. ما عندكيش مش مهم. بس يا حبيبتي، دا اللانش بوكس.. هو كان حد فينا أخد في يوم؛ أكثر من اللي في الكيس ده؟!!"
راحت فاتن تعيد الفيديو وتقهقه ملئ فمها، ثم قامت مبتهجة لتعد اللانش بوكس خاصتها، وتستعد لمواجهة حنق ابنتها، وقد بدا لها هذا المساء على قدر من الاختلاف.. مساء فاتن.