عن إسقاطات وأمراض الرجال التى لا تنتهى
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 28 سبتمبر 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
أصابنى الصوت بخوف شديد. كان الإعصار «فريدريكا» يعبث بالأشجار فى منطقة «جرونه فالد» البرلينية التى يقع بها محل إقامتى الجديد، ويصنع مصطحبا معه المطر الغزير وصرصرة الريح يوما خريفيا قاسيا.
تذكرت أن العدد الأكبر من الأعاصير الفتاكة التى تعبر الأراضى الألمانية يحمل أسماء لنساء من فيبكه وجانيت وايما إلى فيفيان وايلا وفريدريكا، وأن الغربيين عموما ينزعون إلى إلصاق أسماء النساء بالأعاصير وغيرها من ظواهر الطبيعة التى تعبث بين الحين والآخر بمقومات الحياة الآمنة للمجتمعات البشرية. لماذا يجعلون للفتك هوية نسوية؟ لماذا تحمل «هى»، وهى رمز تجدد الخلق والنماء والجمال وعبر قائمة أسماء ابتكرها «رجال» الأرصاد الجوية الأمريكية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، مسئولية فتك وعبث الطبيعة بنا؟ هنا يبحث «هو»، وهو الراسخ تاريخيا تسببه فى القتل والحرق والحرب ومن خلال ميكانزيم تعويضى، عن الحد من شعوره بالذنب بإلصاق دمار الطبيعة بالمرأة. هنا يسعى الرجال ومن خلال إسقاط مفردات الفهم الذكورى للنساء ككائنات يتسمن بالغضب السريع والتقلبات المزاجية والعنف الظاهرى على الطبيعة حين تخرج عن السيطرة، يسعون للتطهر من الجرائم التى يلحقونها بمجتمعاتنا البشرية منذ قديم الأزل بالمرادفة بين المرأة الغاضبة والطبيعة وبين الطبيعة كامرأة غاضبة والخروج عن السيطرة وبين الطبيعة الغاضبة والدمار الشامل الذى تتصاغر معه الآثار الكارثية لجرائمهم هم.
***
لماذا لم تتناول الرائعة ايفلين فوكس كيلر، أستاذة فلسفة العلم وصاحبة الكتابات الكثيرة عن تحرير العلم من الهيمنة الذكورية وإنقاذ الهوية النسوية من إسقاطات الرجال ورغبات السيطرة وعقد الذنب التى تنتابهم باستمرار، بالتحليل علوم المناخ والأرصاد الجوية وتعمل مشرطها لتشريح تهافت الربط بين المرأة وغضب الطبيعة؟
غادرت فوكس كيلر ذهنى، ودفعته الصرصرة المستمرة للريح باتجاه خوف آخر. تذكرت الحوار الذى كان لى مع أستاذة جامعية تخصصت فى نظم التعليم المدرسى وتتولى منذ ٢٠١٧ الإشراف على برامج حكومية تنفذها مدينة برلين بهدف دمج أبناء المهاجرين واللاجئين الجدد فى المدارس وتحفيزهم من جهة أولى على الاستيعاب السريع للغة الألمانية واستخدامها كلغة التواصل بين المعلمين والتلاميذ وتشجيعهم من جهة ثانية على الانفتاح على المجتمع الصغير داخل أسوار المدارس والمجتمع الكبير خارجها. على عهدة الأستاذة المتخصصة، لا يتمثل التحدى الرئيسى فيما خص دمج أبناء المهاجرين واللاجئين الجدد لا فى الزيادة غير المسبوقة فى أعدادهم ولا فى غربتهم عن الثقافة الديمقراطية السائدة فى ألمانيا ولا فى تصاعد خطاب كراهية الأجانب الذى يروج له اليمين المتطرف ولا فى محدودية الموارد المالية التى تعطيها السلطات الحكومية لبرامج الدمج. فتلك جميعا أمور يمكن التعاطى معها بخطاب سياسى شجاع يرحب بالقادمين الجدد ويطالبهم باحترام قيم الحرية والمساواة بين النساء والرجال ورفض التمييز وسلمية الحياة الخاصة والعامة التى تعيش وفقا لها الأغلبية ويفعل بقوة آليات حكم القانون بشأن المخالفين. بل يتمثل التحدى الرئيسى، والرأى ما زال للأستاذة المتخصصة، فى الصدمات النفسية وحالات الخوف المتكررة التى ألحقتها بالمهاجرين واللاجئين وأبنائهم ويلات الحروب الأهلية والعنف والإرهاب والارتحال ومخيمات النازحين فى أوطانهم الشرق أوسطية والآسيوية والإفريقية.
تذكرت طلبى الاستزادة من علمها وعملها، وقولها إن وقائع القتل والتهجير وانتهاكات حقوق الإنسان وتدمير المنازل وتخريب المدن وكذلك مشاهد الجثث الملقاة على قارعة الطرق ومجموعات البشر النازحين ببقايا حياتهم التى كانت فى فزع والأطفال الذين يبكون من جراء البرد القارس داخل وحول مخيمات اللاجئين كلها ذات تداعيات جسمانية ونفسية طويلة المدى على من يتعرضون لها كضحايا مباشرين (مصرع الأب أو الأم أو الأخت لمن يظل على حيا من أفراد الأسرة) أو يقتربون منها كضحايا غير مباشرين (أى من يشاهدون عن قرب معاناة واضطراب الضحايا المباشرين إن فى أوطانهم التى ينزحون منها أو فى المنافى التى ينزحون إليها)، وعلى رأس القائمة الطويلة لتداعيات الصدمات النفسية التى يحملها المهاجرون واللاجئون وأبنائهم تأتى، من جهة، استعداد الضحايا لممارسة العنف المادى واللفظى فى «بيئات ما بعد النزوح» كالمخيمات المعدة للاجئين السوريين فى الأردن وتركيا أو فى المدن الألمانية التى يسكنها حاليا مئات الآلاف من السوريين. ومن جهة أخرى، تتبلور بين بعض المهاجرين واللاجئين الجدد ظاهرة العداء النفسى لبيئات ما بعد النزوح على النحو الذى يشرح نزوع عدد مؤثر من أبنائهم إلى الرفض المتكرر للتعاون مع القائمين على برامج الدمج فى المدارس الألمانية وتورط عدد مماثل من شباب القادمين الجدد فى اعتداءات ممنهجة ضد النساء الألمانيات لا تفسير لها سوى كراهية البيئة المحيطة بهم والرغبة فى الانتقام ممن يظنون كونهن الطرف الأضعف فى المنظومة المجتمعية.
ثم أمهرت الأستاذة المتخصصة رأيها بالتأكيد على أن دراسة تلك التداعيات الجسمانية والنفسية طويلة المدى التى يعانى منها ضحايا الحروب الأهلية والعنف والإرهاب تتسم بالاختلال الشديد نظرا لتركيزها على الضحايا الرجال والشباب والأطفال من الذكور وإهمالها البين للنساء فى الشرائح العمرية المختلفة. تذكرت أنها ألقت بهذه الحقيقة الصادمة على مسامعى، وأتبعتها بملاحظات مؤلمة عن أمراض الخوف المستمر والاكتئاب وفقدان القدرة الإنجابية التى تصيب النساء والفتيات النازحات من أماكن الحروب الأهلية وويلاتها والتى تظل غير مدروسة لأنها ــ وعلى عكس عنف الرجال من المهاجرين واللاجئين وعنف أبنائهم من الذكور ــ لا تخرج إلى الفضاء العام فى بيئات ما بعد النزوح. ها هى ايفلين فوكس كيلر تقتحم ذهنى مجددا، ومعها وجوه الضحايا من النساء والفتيات اللاتى يتعرضن لعنف الحكومات وعصابات الإرهاب فى بلدان الشرق الأوسط ولا نعلم الكثير عن تفاصيل معانتهن الجسمانية والنفسية وحالات خوفهن المتكررة لا فى أوطانهم ولا فى مخيمات اللاجئين الشرق أوسطية ولا فى المدن الألمانية والأوروبية التى تستقبلهن.
***
صببت اللعنات على ذكورية العلم من الأرصاد الجوية إلى الدراسات النفسية والاجتماعية والتربوية التى تبحث فى تداعيات الصدمات على الضحايا من الرجال فقط، وقررت معاندة الإعصار مقللا من شأن خوفى الشخصى من اليوم الخريفى القاسى إذا ما قورن بخوف سيدة أو طفلة سورية تجلس فى ذات اللحظة فى محل إقامتها الصغير ببرلين ولا تعرف متى ستنتهى صرصرة الريح وربما تخشى الخروج إلى الشارع فى أعقاب أحداث العنف الأخيرة ضد المهاجرين واللاجئين. قدت الدراجة الهوائية بسرعة منتشيا بتجاوز الخوف، ومستفيدا من قوة دفع الريح التى وجهتنى جغرافيا إلى الشرق. وصلت إلى قلب حى «شارلوتنبورج» الذى تقطنه حفنة من الأغنياء وميسورى الحال، وقللت من سرعة الدراجة ما أن استرعت انتباهى أسماء الشوارع التى كانت خالية من السيارات والمارة. شارع شيلر (الشاعر فريدريش شيلر)، شارع هيردر (الفيلسوف يوهان هيردر)، شارع جوتة (الأديب يوهان فولفجانج فون جوتة)، شارع كانط (الفيلسوف إيمانويل كانط)، شارع ليبنتس (العالم والفيلسوف جوتفريد لينتس)، شارع نيبور (المؤرخ جورج نيبور)، لم أعثر على اسم لسيدة واحدة على شارع، لا شاعرة ولا أديبة ولا فيلسوفة ولا عالمة ولا مؤرخة واحدة يرتفع اسمها فى حى الأغنياء! لماذا؟ فى بلد متقدم كألمانيا وفى مجتمعها الذى يرفع شعار المساواة الكاملة بين الجنسين وفى عاصمتها التى تقودها سياسيا مستشارة حاذقة وفى حى معروف بليبراليته، ألا تستحق المرأة أن تحمل الشوارع أسماء لأعلام النساء؟ الإجابة البسيطة والصادمة هى لا، لأن نفس المنطق الذكورى المسيطر على أسماء الأعاصير يظهر فيما خص أسماء الشوارع مفاعيله العكسية. يريد الرجال بإسقاطاتهم ورغباتهم المريضة تخليد أسمائهم هم على يافطات الشوارع كفرسان شعر وأدب وفلسفة وعلم ناهيك عن أبطال الانتصارات العسكرية والسياسية، ويعملون على التنصل من جرائم القتل والدمار والخراب التى يحدثونها باستدعاء الهوية النسوية وإلصاقها بالأعاصير وغيرها من ظواهر الطبيعة الفتاكة فيتناسى الناس الآثار الكارثية لجرائم الرجال ويقرنون بين الطبيعة الغاضبة والمرأة الغاضبة غير مأمونة الأفعال والعواقب.
أوقفت الدراجة مغيرا اتجاهها، أدركت أن يوم الإعصار المسمى «فريدريكا» قد صار يوم الفيلسوفة فوكس كيلر ويوم صب اللعنات على ذكورية العلم ونفاق الرجال وأن الأفضل لى هو العودة إلى محل إقامتى لكيلا يتحول تململى من «بيئة ما بعد النزوح» إلى رفض وعداء.