‎سفينة العرب.. والسفينة تيتانيك

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: السبت 28 سبتمبر 2024 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

‎عندما يقع حادث كبير فى وحدة أو مؤسسة كبيرة مثل اصطدام الباخرة تيتانيك بجبل جليد فى شمال المحيط الأطلنطى أو تسرب الإشعاع من مفاعل تشرنوبل أو التسونامى الذى خرب سواحل جنوب شرق آسيا، يهرع المسئولون لتشكيل وحدة احتواء الضرر Damage control، وتتولى الوحدة تحديد الضرر الذى وقع والإجراءات الواجبة لاحتوائه وعدم استفحاله وإمكانية إصلاحه، ثم لاحقا الخروج من الحادث بدروس لتفادى وقوعه مستقبلا وتحسين أساليب مواجهته إذا حدث رغم ذلك.
‎لو أخذنا مثال السفينة تيتانيك فقد اصدمت الباخرة العملاقة بجبل جليد فى شمال المحيط الأطلنطى فى منتصف ليلة 14 أبريل عام 1912. فهرع قبطان السفينة الكومودور، إدوارد سميث، والمهندسون وصادف أن كان توماس أندروس ــ المهندس الذى صمم تيتانيك ــ ضمن الركاب، كذلك جوزيف ايسماى ــ رئيس شركة النجمة البيضاء المالكة للسفينة ــ واجتمعوا مع كبار ضباط السفينة لتحديد الضرر الذى سببه الصدام وتم تشغيل طلمبات المياه إلى أقصى طاقتها. عندما تبين عجز الطلمبات عن نزح المياه المتدفقة أرسلت رسائل الاستغاثة وتم تطقيم وإنزال قوارب النجاة. فى فجر يوم 15 غرقت السفينة التى قيل عنها فى نشرات الدعاية أنها غير قابلة للغرق، وغرق معها أكثر من 1500 من ركابها وطاقمها بينهم رئيس الشركة والمهندس الذى صممها وقبطانها!.
‎رغم أن جهود احتواء الضرر عجزت عن إنقاذ السفينة إلا أن الجهود استمرت لمنع تكرارها وتشكلت لجنة SOLAS سلامة الأرواح فى البحر Safety of life at Sea التى سيرت دوريات بحرية لرصد ومتابعة جبال الثلوج التى تهدد السفن إضافة إلى تعديلات فى تصاميم السفن وزيادة عدد زوارق النجاة وسبل أكثر فاعلية للاستغاثة من أجل احتواء أى حوادث مستقبلية.
• • •
‎فى الشهور الماضية اصطدمت السفينة العربية بجبل الجليد الإسرائيلى وأدى الاصطدام إلى مقتل ستين ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال والمدنيين العزل، فضلا عن مائة ألف جريح، وتدمير قطاع غزة بالكامل. تم تحرك الجبل ليدمر الضفة الغربية ليقتل من يقتل ويهدم ما يهدم ثم إلى لبنان بغارات جوية دمرت ما دمرت وقتلت من قتلت، ووجه جبل الجليد الغادر فى لبنان هجمات عالية التقانة إلى أجهزة الاتصال فى أيادى الناس لعلهم يحملونها لطلب النجدة إذا تعرضوا للأذى فإذا بها تتحول إلى أحصنة طروادة تحمل الموت والدمار فتتفجر فى أياديهم وتقتل وتحرق وتبتر الأعضاء.
‎بدأ الماء الأجاج يتدفق إلى سفينة العروبة وبدأت تميل وتوشك على الغرق بعد أن تعددت الثقوب فى بدنها، وبدلا من أن يتكاتف ركاب السفينة لإنقاذها وسد الثقوب فى بدنها أنزلوا قوارب الإنقاذ للفرار منها. زورق ركبه المنتمون لكل قطر، وياللعجب فقد هرولت بعض القوارب إلى جبل الجليد واهمين أن الجبل يمكن أن يوفر لهم الحماية والأمان، وزوارق أخرى يممت فى البحر باحثين عن سفينة أخرى تأويهم، أمريكية أو أوروبية أو صينية أو روسية تلقى لهم أطواق النجاة يتعلقون بها أو حبالا تسحبهم.
‎رغم أن السفينة تشارف على الغرق إلا أن أصحابها ما زالوا لم يتخذوا إجراءات لاحتواء الضرر الذى حدث وأصبح جل همهم العويل والنحيب لاستعطاف العالم لوقف إطلاق النار، ووقف نزيف الدم ومعاول الهدم، وتوفير الدواء للجرحى، والغذاء للذين يتضورون جوعا، وماء نظيفا للعطشى، ووقودا لتوليد الطاقة اللازمة للإنارة وتشغيل حضانات الأطفال، وأجهزة التنفس الصناعى للذين يصارعون الموت، أما عقاب المجرمين وتحقيق العدالة وتعويض المتضررين لا يجرؤ على الحديث عنه.
‎احتواء الآثار الإنسانية للارتطام بجبل الجليد من رعاية الجرحى والأشخاص المصابين الذين لحقت بهم عاهات دائمة، والبنية التحتية المهدمة وعلاج الأثر النفسى والعقلى لمن شهدوا الجحيم ويوم القيامة بأعينهم، وقد أتخمتنا هوليوود بطوفان من الأفلام عن الجنود الأمريكيين العائدين من حرب فيتنام الذين أصيبوا بما أسموه post traumatic syndrome وما يواجهونه من متاعب نفسية وعصبية بسبب معاناتهم فى الحرب، وهم المدججون بأحدث الأسلحة ويقتحمون المواقع بعد أن سوتها قاذفات القنابل الأمريكية بالأرض ولم يفكروا فى الشعب الفيتنامى الذى تحمل آلاف الأطنان من القنابل وأحرقوا بالنابالم وتعرضوا لـAgent Orange المسرطن، كما لم تفكر هوليوود فى تقديم معاناتهم فى فيلم واحد!.
‎لعل من الأضرار الخطيرة التى يجب العمل على احتوائها هو جهود الإعلام الصهيونى الأمريكى الفاجر لنزع الإنسانية عن الشعوب العربية بما يسمح بالتنكيل بهم وقتلهم دون أن يتعاطف معهم أحد وهو جهد يحتاج إلى تضافر شعوب كثيرة تعرضت للقتل والتنكيل، منها الشعب الفيتنامى والأفارقة الذين ألقيت جثث مليونى إنسان منهم فى مياه المحيط أثناء نقلهم بالسفن إلى العبودية والرق فى العالم الجديد.
‎ضرر جسيم آخر أصاب بدن السفينة علينا احتواؤه، وهو فقدان الثقة فيها فهل سيقف جيل شاهد قومهم العرب يذبحون وينكل بهم دون أن يتحرك أحد لنجدتهم ولو بتحرك سياسى مثل ما قامت به جنوب إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية؟ بل إن بعضهم ذهب إلى إدانة الضحايا الفلسطينيين وحملهم مسئولية المذابح والجرائم. فجوة هائلة فى بدن السفينة بسبب انهيار الثقة فى النفس والعجز عن ضم الصف وتعبئة الموارد الهائلة، وأصبح الملاذ الوحيد عن الخطر هو محاولة الارتماء فى أحضان الكبير الذى نتوهم أنه الحامى رغم كل أفعاله التى تفضح كل كراهيته وازدرائه لنا والتنكيل بنا فيزداد استهانة بنا وازدراء لنا.
• • •
‎آن الأوان لإدراك الفجوة الهائلة فى العلم والتكنولوجيا بيننا وبين عدونا الذى أطلق الصواريخ التى حملت الأقمار الصناعية لتكشف عوراتنا، وطور الكمبيوتر الكمومى الذى خطى به خطوات هائلة فى التطبيقات العدوانية ومنها المجال السيبرانى الذى سمح له برصد تواجدنا فردا فردا وتصفية من يريد، وحتى اختراق هواتفنا المحمولة وتحويلها إلى أدوات موت ودمار لنا.
‎سفينتنا مشرفة على الغرق وأن تتحطم إلى 22 لوحا يتعلق راكب بكل لوح واهما أن لوحه سيحميه من أمواج وتيارات البحر وحيتانه ووحوشه، فهل ينتبه أصحاب السفينة إلى الخطر المحدق بهم وأنه لا أمان لهم إلا فى سفينتهم؟ فهل يفيقون ويقفون وقفة عز لإنقاذ السفينة أم يقفون خائفين مرتعشين وهم يسمعون الطاغوت وهو يهدد بتركيع الأمة بضغطة زر؟
نحن فى نقطة فارقة من التاريخ، هل نكون الأمة التى قهرت محافل الصليبيين والتتار، والتى غنت يوما أمجاد يا عرب أمجاد أو نكون الأمة التى ضحكت من جهلها الأمم؟

‎عضو المجمع العلمى المصرى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved