خاصية التدمير الذاتى
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 29 أكتوبر 2011 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
البعض يملك هذه الخاصية. يدخل نفسه والآخرين فى متاهات تنتهى إلى قرارات مدمرة لصاحبها. و«التدمير الذاتى» هو وصف لما هو أعقد من مجرد «سوء التقدير». سوء التقدير وارد، لأنه ببساطة خاصية إنسانية. إنما التدمير الذاتى هو سلسلة متسقة الحلقات من تجاهل المعلومات الجديدة التى تتناقض مع المعلومات القديمة أو الافتراضات السابقة، ورفض تغيير الرأى أو الموقف رغما عن وجود أسباب منطقية تدعو لذلك، ورفض الاستجابة السريعة للمتغيرات بسبب عدم الاعتبار لعنصرى الزمن وتكلفة الفرص الضائعة، وتبنى مقولات ورفع شعارات واتخاذ قرارات تحقق مكاسب سريعة ولها تكاليف مدمرة فى المستقبل. كل ما سبق ليس بذاته «تدميرا ذاتيا» هو فقط «تدمير» لكن ما يجعله «ذاتيا» هو أن يكون أول من يتضرر منه هو متخذ القرار نفسه، فهو الذى رفض المعلومات الجديدة مع أنها تفتح له آفاقا أرحب للاختيار، وهو الذى يرفض تغيير الرأى أو الموقف مع أنه لو فعل ذلك لحقق مكاسب أكبر، وهو الذى لا يستجيب بالسرعة الكافية للتحديات الجديدة مع أنه من الواضح له أن الاستجابة السريعة فى مصلحته، وهكذا.
●●●
هناك مجموعة من الأساطير فى حياتنا، فوجئت بأنها موجود بنفس القدر والخطورة فى الحارة والشارع كما هى موجودة فى حياتنا السياسية الحكومية والحزبية. ولحضراتكم عينة من هذه المقولات التى تحمل فى داخلها خاصية التدمير الذاتى:
أولا أسطورة «الرجل لا يرجع فى كلامه». لو أنا فهمت هذه العبارة على ظاهر معناها، إذن الصحابة العظام الذين صدقوا الرسول محمد أو حواريى السيد المسيح عليهما السلام أخطئوا لأنهم «رجعوا فى كلامهم»، وعليه فأبو لهب وأبوجهل وبيلاطس والرهبان اليهود الذين لم يؤمنوا بدعوتى محمد وعيسى «رجالة» لأنهم صمموا على «كلامهم».
تلك إذن قسمة ضيزى. أين إذن نضع الحث على التناصح وتعليم الناس الخير وأن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والمرونة فى الإدارة؟
أقول هذا الكلام بعد أن هالنى أن البعض يرفض أن «يرجع فى كلامه» خوفا على مصداقيته رغما عن يقينه بخطأ موقفه والتكلفة المهولة له ولشعب بأكمله. المصداقية ترتقى ويرتقى صاحبها حين تكون مبنية على قوة الموقف والحجة والاستعداد لعمل ما هو فى صالح عموم الناس حتى لو كان مبنيا على تقدير مختلف للموقف ولمعطياته. والأغرب أن الإنسان الرجّاع للحق، يوصف بأنه «مالوش كلمة» و«متلون» و«ثعلب» مع أن الأولى بهذه المصطلحات هو من يغير مواقفه من أجل مصلحة شخصية وبدون مراجعة فكرية حقيقية وبشكل سريع ومتخبط يبدو معه المرء وكأنه بلا بوصلة أو وجهة إلا ما يحقق المصلحة الخاصة. وشتان بين هذا وذاك. أزعم أن من يغير موقفه حين يستبين له موضع الخطأ فيه ويصرح للناس بأسباب تبنيه للموقف الأول وأسباب تغييره لموقفه، أكثر حرصا على الحق، وأكثر ثقة بالنفس، وأنفع للمجتمع ولنفسه ممن يتشبث بالباطل خشية أن يُظَن فيه أنه كان يوما على غير الحق، وممن يتناوب الحق والباطل وكأنهما يستويان مثلا.
هناك سياق واحد ربما أقبل فيه هذه المقولة وهو مقام «الوفاء بالوعد،» فالوعد القاطع دين قاطع لا بد من الالتزام به، ولكن الانسحاب من هذا السياق إلى غيره مضرة.
ثانيا أسطورة «أبو العريف»: كم من أشخاص تكون لديهم قدرة استثنائية على أن يطرحوا آراءهم فى كل القضايا بغض النظر عن تخصصهم أو خبرتهم وكأن عبارة «لا أدرى» أو «غير متأكد» أو «اسأل شخصا آخر له خبرة أكثر» نقيصة لا تليق بأى إنسان مصرى على قيد الحياة.
أما وقد سُؤل فلابد أن «يفتى». وبما أن أى مواطن يستطيع أن يدلى بدلوه فى كل قضية، إذن فمن الممكن أن يكون المستشار القانونى لرئيس الدولة مثلا له نفس الحجية والوزن النسبى فى مجال تخصصه مع أى نصيحة تأتى لصانع القرار من زوجته أو ابنه أو بنته أو سائقه تحت شعار: «اهوه كله كلام، وكله عند العرب كلام». المشكلة أن هذه الأسطورة قد تجعلك تنصت للشخص الخطأ فى التوقيت الخطأ فتقع المصيبة، وبعدها تبحث عن الشخص الصح فى التوقيت الخطأ لتعرف لماذا حدث التدمير الذاتى. ثالثا أسطورة «تمام يا ريس»: هذه الأسطورة لها إسهام فى خاصية التدمير الذاتى عن طريقين: الأولى بصيغتها الحالية وهو «تمام يا ريس» أى مجاراة صانع القرار فى كل ما يقول بأى صيغة كانت حتى لو كان الكلام فيه مضار واضحة، لكن «الزعيم لا يخطئ أبدا» عند هؤلاء. ويكتشف المرء أن أحد المشروعات الكبيرة فى وسط القاهرة تم بناء على رغبة الرئيس مبارك، وحين دُعى لافتتاحه سأل عن التكلفة فلما عرف بها انتقد الوزير المسئول فكان رده: «احنا كنا بنفذ تعليمات سعادتك يا افندم». وهناك جانب آخر لهذه الأسطورة وهو بإضافة كلمة «كله» لتصبح «كله تمام يا ريس». وهى تعنى حجب المعلومات المزعجة عن صانع القرار والمبالغة فى تصوير الإنجازات وكأن الأمور كلها تحت السيطرة وتسير فى اتجاهها الصحيح بلا تقييم موضوعى وحقيقى وخارجى للوضع. وكلمة «خارجى» أحيانا تعنى وجود جهة مستقلة قيمت الوضع الذى مفروض أنه «كله تمام».
●●●
هل نتصور أن التباطؤ العجيب الذى كان عليه مبارك ومن معه فى اتخاذ أى قرار حتى مساء 28 يناير رغما عن غليان الأوضاع بدءا من 25 يناير قد حدث دون تأثير من الأساطير الثلاث السابقة؟ لو كان هذا الرجل استجاب لمطالب العشرات من المخلصين الذين قالوا له «اصلح أو ارحل» لسنوات طوال قبل 2011، لكنا الآن حققنا ما نريد بتكلفة أقل. لو كان سيادة المشير يجلس مع مستشارين مخلصين ويستمع إليهم بانتباه أكثر ويأخذ كلامهم بجدية أكثر، لكنا الآن حققنا فترة انتقالية بتكلفة أقل وأسرع. لو كانت القوى الثورية، استجابت لفكرة إجراء الانتخابات البرلمانية فى يونيو الماضى، كانت حصلت على أصوات أكثر مما ستحصل عليه يقينا فى نوفمبر وساعتها كان وجود مجلسى الشعب والشورى مزية لهم لتزيد فرص تمثيلهم. لو كان المجلس العسكرى التزم بخريطة الطريق التى اختارتها الأغلبية بإجراء انتخابات سريعة، والتزم المجلس العسكرى بأن يسلم السلطة فى 2011، لظل احترام الناس وتقديرهم للمجلس فى مكانته اللائقة. ولكنهم «رجعوا فى كلامهم» بسبب افتراضات خطأ ومعلومات خطأ.
ما العمل؟
1ــ على كل مسئول أن يكون له مجموعة من المستشارين ممن لا يلتزمون بهذه الأساطير. ناس متمكنة فى علمها وفى قوة شخصيتها ولا تخشى أن تقول الحق ولو كان مرا على آذان من يسمعون منهم. مستشارون يكونون أكبر من الكراسى التى يجلسون عليها، وليست نيتهم أنهم التحقوا بعمل ما كى «يكسبوا قرشين ويكوّنوا نفسهم».
2ــ على كل مسئول أن يتواصل بشكل أسبوعى مع العاملين معه لو كان فى شركة أو مصنع أو مع آحاد الناس لو كان فى وظيفة حكومية من خلال موعد أسبوعى يتبنى فيه فكرة «الباب المفتوح».
3ــ لا تُحجب المعلومات والتقييمات السلبية عن المسئولين، فهى مهما كانت مزعجة نفسيا لكنها مفيدة ذهنيا لأنها تساعدهم على ضبط إيقاع حركاتهم واتخاذ الإجراءات التصحيحية اللازمة. ولو كان المسئول غير قادر على الموازنة بين الانزعاج النفسى وبين الفائدة الذهنية المترتبة على المعلومات والتقييمات السلبية، إذن فهو ليس مؤهلا لأن يتخذ مواقع قيادية، والأولى به أن يمتهن مهنة تكون ضغوطها النفسية أقل.
4ــ هناك مقررات دراسية ودورات تدريبية يلتحق بها الأفراد كى يكتسبوا ويصقلوا مهارات القيادة والإدارة السليمة إن كانت عندهم مقوماتها لأنها مهارات إن لم يتم تطويرها فستضمر.
لو حد يقدر يطلع السيد المشير على هذه المقالة، أكون له من الشاكرين، فالتكلفة ترتفع والاقتصاد يستنزف والمرحلة الانتقالية تطول بلا صالح وطنى، وقد خرجنا بالفعل عما طالب به أهل «نعم».