بين مذبحة ماسبيرو ومذبحة الإسكندرية

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 28 أكتوبر 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

عندما وقعت أحداث ماسبيرو المرعبة فى 9 أكتوبر 2011، تذكرت ما كنت قرأته عن أحداث أخرى وقعت فى الإسكندرية فى 11 يونيو 1882، أى منذ مائة وثلاثين عاما، وعرفت فى التاريخ المصرى باسم مذبحة الإسكندرية.

 

كان الحادث مأساويا فى الحالين، إذ راح ضحيته أبرياء كثيرون، لم يرتكبوا أى جرم، كما أن أيا منهما لم يكن متوقعا بالمرة، ولا كان من المكن التنبؤ به. وقد صدر فى أعقاب كل منهما تحذير من أقوى دولة فى العالم (بريطانيا فى الحالة الأولى والولايات المتحدة فى الثانية)، موجه إلى الحكومة المصرية، يلقى عليها اللوم لفشلها فى المحافظة على الأمن وأرواح الأقليات (الأجانب فى حالة والأقباط فى الأخرى). وقد تلا توجيه هذا اللوم، فى حالة مذبحة الإسكندرية، وقوع مصر تحت الاحتلال الإنجليزى لفترة استمرت 74 عاما. فهل يا ترى يمكن أن تحدث فى أعقاب مذبحة ماسبيرو كارثة مماثلة؟

 

لا نريد أن يذهب بنا الخيال والتشاؤم إلى أبعد مما ينبغى، ولكن يبدو لى أن هناك مبررات حقيقية للخوف، إذ على الرغم من أوجه الاختلاف الكثيرة بين ظروف مصر والعالم فى أواخر القرن التاسع عشر وبين الظروف السائدة الآن، فإن هناك أيضا أوجه شبه مهمة تستحق الانتباه.

 

●●●

 

حدثت مذبحة الإسكندرية بعد تسعة أشهر من قيام ثورة رائعة فى مصر قادها الضابط أحمد عرابى فى 9 سبتمبر 1881، (وسماها الناس وقتها هوجة عرابى). إذ ذهب أحمد عرابى مع مجموعة من زملائه الضباط إلى ميدان عابدين، للتعبير عن غضبهم على معاملة الضباط المصريين والتمييز ضدهم لصالح الضباط الشراكسة، وحاملين مطالبهم للخديو توفيق. وقد دار الحوار الآتى بين الخديو وعرابى (طبقا لرواية المؤرخ عبدالرحمن الرافعى):

 

« ــ ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟

 

ــ جئنا يا مولاى لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة، وكلها طلبات عادلة.

 

ــ وما هى هذه الطلبات؟

 

ــ عزل رياض باشا (رئيس الوزراء) وتشكيل مجلس النواب، وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين فى الفرمانات السلطانية.

 

ــ كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها. وأنا خديو البلد، وأعمل زى ما أنا عاوز.

 

ــ ونحن لسنا عبيدا ولن نُورث بعد اليوم».

 

أما مذبحة ماسبيرو فوقعت بعد ثمانية أشهر ونصف الشهر من قيام ثورة رائعة أيضا، حيث تجمعت مئات الألوف من المصريين فى ميدان التحرير وغيره من الميادين، يطالبون بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم بإسقاط النظام.

 

فى سنة 1881 اضطر الخديو توفيق للاستجابة، ولو مؤقتا، لمطالب عرابى، فقام بتغيير الحكومة، وعين حكومة جديدة، برئاسة شريف باشا، واشترك أحمد عرابى نفسه مع شريف باشا فى اختيار الوزراء الجدد. وفى سنة 2011 اضطر حسنى مبارك للاستجابة إلى مطالب الثوار بالتنحى، وشكلت حكومة جديدة برئاسة أحمد شفيق، وبدا وكأن النظام كله على وشك السقوط. ولكن فى الحالتين (حالة الخديو توفيق وحسنى مبارك) أخذ النظام القديم يستعيد قوته شيئا فشيئا، وأخذ الثوار يفقدون قوتهم شيئا فشيئا.

 

أثناء ذلك كان هناك فى الحالين قوى خارجية متربصة، تراقب باهتمام بالغ (وطبيعى للغاية) تطورات الثورة. كان لبريطانيا أطماع مهمة فى مصر تغرى باحتلالها (تتلخص فى الرغبة فى الحصول على موقع قدم فى طريقها إلى الهند، بما فى ذلك السيطرة على قناة السويس، وضمان تسديد ديون مصر للمقرضين الأجانب، وتحويل مصر إلى مزرعة قطن لخدمة صناعة المنسوجات البريطانية). وكان ولايزال للولايات المتحدة أطماع فى مصر (تتعلق بإخضاع أكبر دولة فى المنطقة العربية التى تحوز ثروة هائلة من البترول والغاز الطبيعى، كما تتعلق بمطامح إسرائيل بعيدة المدى، سياسية واقتصادية). ومن المؤكد أن الأطماع الخارجية فى الحالين تتعارض مع أهداف الثورتين فى التحرر والاستقلال وفى تحقيق ديمقراطية حقيقية.

 

من الممكن جدا إذن أن يكون قيام مذبحة من نوع مذبحة الإسكندرية فى 1882، ومذبحة ماسبيرو فى 2011، تشيع الفوضى فى البلاد، وتخلق أسبابا قوية للنزاع والشقاق، ومن ثم تعرقل أى تقدم للثورة، بل وتعطى مبررا قويا للتدخل الخارجى أمرا مرغوبا فيه بشدة من قوى خارجية وداخلية، ومن ثم يمكن أن يكون وقوعه طبقا لخطة مرسومة سلفا.

 

●●●

 

من المهم أن نلاحظ شبها آخر يتعلق بطريقة تنفيذ المذبحة فى الحالتين، أو إذا شئت، طريقة إخراجها وتمثيلها الفاعل الرئيسى فى الحالين هو «البلطجى»، وهو شخص لا قضية له، ولا يحمل مشاعر من أى نوع، أو على الأقل لا مشاهد عدائية لديه ضد الطرف الذى يقوم بقتله أو ضربه، وإن كان يستفيد من شيوع مشاعر التوجس والخوف بين طرفين، مثل المشاعر التى شاعت بين المصريين والأجانب أيام مذبحة الإسكندرية، أو بين المسلمين والأقباط فى أيام مذبحة ماسبيرو.

 

أما الهدف الأساسى للبلطجى (وربما الهدف الوحيد)، من ممارسة القتل أو الضرب، فهو مجرد الحصول على مبلغ من المال. إنه إذن شخص معدوم الضمير، ويفتقد أى شعور بالولاء للوطن أو لأى قضية على الاطلاق، احترف الإجرام كوسيلة لكسب الرزق بعد أن شحت فى الأسواق فرص الكسب المستمر من عمل شريف.

 

لقد تداول الناس فى أعقاب مذبحة ماسبيرو، تقديرات لعدد البلطجية الذين يشتغلون فى خدمة جهاز أمن الدولة المصرى لتنفيذ أغراض سياسية لا يستحسن بشأنها أن يظهر رجل الأمن بزيه الرسمى. هذا العدد هو 165 ألف شخص، وهو رقم ليس لدىّ أى سبب للشك فى قربه من الصحة، بالنظر إلى معرفتى بالزيادة الكبيرة فى أعداد المتبطلين فى مصر طوال ربع قرن الماضى، بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية، وتكرار الإشارة إلى «البلطجية» فى البيانات الرسمية لتبرير اعتداء بعد آخر على ثوار يناير 2011 (ابتداء من موقعة الجمل فى 28 يناير)، والاعتداء المتكرر على الأقباط وكنائسهم بعد وقبل ثورة يناير.

 

سوف يتذكر القارئ مثلا أنه عندما وقعت جريمة نجع حمادى، التى قتل فيها ستة من الأقباط وأصيب تسعة آخرون، وهم خارجون من كنيستهم فى ليلة عيدهم يوم 6 يناير 2010، جاء فى التحقيق أن المتهم باطلاق النار (واسمه الكمونى) «مسجل شقى خطر» تكرر ارتكابه جريمة بعد أخرى، وسبق اعتقاله فى سنة 2002 وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات  فى «جريمة بلطجة»، كما تردد كلام كثير وقتها (بل ونشرت بعض الصور) يشير إلى وجود علاقة بينه وبين رجل مهم فى الحزب الحاكم فى منطقة نجع حمادى. والآن، فى مذبحة ماسبيرو، ثبت أن جماعات وصفت أيضا بـ«البلطجية»، انضمت إلى مسيرة الأقباط السلمية، التى نظموها للاحتجاج على موقف محافظ أسوان من بناء كنيسة، فخرجت فجأة من شوارع جانبية أعداد من حملة السيوف والسنج بل وقنابل المولوتوف، وبدأت الضرب فى المتظاهرين وفى الشرطة العسكرية فى نفس الوقت، فأشعلت القتال بين الجانبين، الذى راح ضحيته 25 قتيلا وأكثر من 200 مصاب.

 

أما فى مذبحة الإسكندرية التى وقعت فى 1882 والتى قُدر عدد القتلى فيها بنحو خمسين والجرحى بنحو سبعين، فيذكر عبدالرحمن الرافعى (الثورة العرابية، والاحتلال الإنجليزى، 1949، ص304) أ:

 

«أول من أشعل الفتنة مالطى من رعايا بريطانيا وهو أخ لخادم القنصل البريطانى، ولا يمكن أن يكون هذا من قبيل المصادفات».

 

بعد شهر بالضبط من وقوع مذبحة الإسكندرية (11 يوليو 1882) بدأ ضرب الأسطول البريطانى للإسكندرية تمهيدا للاحتلال البريطانى. وكتب الشيخ محمد عبده فى الربط بين الاحتلال البريطانى ومذبحة الإسكندرية.

 

«إن الحكومة الإنجليزية على عادتها فى اختلاق العلل.. قلبت وجوه المسائل، واستدبرت طالع الحق، واستقبلت وجه مطمعها.. واندفعت لتسيير مراكبها إلى مياه الإسكندرية.. ثم نفخ بعض رجالها فى أنوف ضعفة العقول من الأجانب المقيمين بالثغر حتى أوقدوا فتنة هلك فيها المساكين، قضاء لشهرة إنجليزية، وأقامت منها حكومة إنجلترا حجة فى العدوان على الأراضى الخديوية. ولو أن بصيرا نظر إلى أحوال القطر المصرى بعين صحيحة لعلم أن بداءة الخلل فى ذلك القطر من يوم ورود المراكب الإنجليزية لثغر الإسكندرية، ولا نسبة بين ما كان قبل ذلك من عموم الأمن ورواج الأعمال وانتظام المصالح، وبين ما كان بعده» (تاريخ الأستاذ الإمام، اقتطفه الرافعى ص 304).

 

ليس غرض من كتابة هذا المقال الشروع فى طرح مجموعة من الاحتمالات (الفظيعة كلها) لما يمكن أن يكون الهدف النهائى من تدبير مذبحة ماسبيرو: تفتيت العالم العربى أجزاء، أصغر حتى مما جرى عمله منذ تسعين عاما فى أعقاب الحرب العالمية الأولى؟ مزيد من إضعاف الدولة فى مصر، والعرب عموما، لدرجة تمكن الإسرائيليين من السير قدما فى تهويد فلسطين؟ إعادة توزيع ثروة العرب (وعلى الأخص البترول والغاز الطبيعى» بما يعطى لإسرائيل نصيبا ملموسا، وفى مأمن من أى احتمال للمقاومة من جانب العرب؟

 

بل غرضى الأساسى من كتابة هذا المقال هو التأكيد مرة أخرى على أن الصراع بين المسلمين والأقباط، صراع مفتعل من أساسه، ولا ناقة فيه ولا جمل لا للمسلمين ولا للأقباط، بل الغرض الحقيقى من إثارته وزيادته هو الإضرار بالمسلمين والأقباط جميعا، وأن أى تصوير للأمر على خلاف ذلك ينطوى على خطأ فادح ناتج إما عن ترك العنان للعواطف، أو عن رغبة متعمدة لتضليل الطرفين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved