الحجة الميتافيزيقية لإلغاء الأحزاب السياسية
صحافة عالمية
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 - 9:20 ص
بتوقيت القاهرة
نشرت مجلة ذا نيو ريبابليك الأمريكية مقالا للكاتب آدم كيرش يتحدث فيه عن ضرورة عمل الأحزاب بالديمقراطية ومحاولة التوصل إلى إجابة يرضى بها الجميع لتكون هذة الأحزاب فعالة فى تحقيق الصالح العام فى النهاية. كتب كيرش يقول؛ كان عيد العمال هو بداية موسم الانتخابات، وهو الوقت الذى يبدأ فيه الناس الاهتمام بالمرشحين وبرامج الأحزاب. لكن مضى وقت طويل منذ اقتصار المنافسة الحزبية على الشهرين السابقين للذهاب إلى مراكز الاقتراع. وازداد سماع شكوى أن هويات الأمريكيين تحددها عضوية الأحزاب، على نحو يتجاوز من يصوتون لمصلحتهم فى نوفمبر. وأشار الكاتب، قائلا: على الأقل منذ انتخابات عام 2000، تعودنا على التفكير فى أنفسنا باعتبارنا ثقافتين فى بلد واحد، أمريكا الزرقاء الديمقراطية وأمريكا الحمراء الجمهورية، وليست هناك مصيبة عامة إطلاق النار فى إحدى المدارس، أو حالة من وحشية الشرطة، أو قرار للمحكمة العليا لا تكشف عن الانقسامات العميقة ذاتها. فقد كانت الأحزاب السياسية الأمريكية ائتلافات مصالح. أما الآن فهى تجمع بين تسميتى المعسكرات الأيديولوجية وأسلوب الحياة.
بعبارة أخرى، الأحزاب الأمريكية فى سبيلها لأن تكون أقرب إلى ما كانت عليه الأحزاب الأوروبية. ففى فايمار بألمانيا أو الجمهورية الثالثة الفرنسية، لم يكن الوسطى الاشتراكى أو الشيوعى أو الكاثوليكى هو الذى يصوت لمرشح بعينه، بل هو الذى ينتمى إلى جماعة بعينها ــ غالبا لديها مشروعات الإسكان والصحف والنقابات وجماعات الشباب الخاصة بها. وأظهرت سنوات ما بين الحربين العالميتين للعالم ما يمكن أن يحدث عندما يتجاوز الحزب السياسى حدود السياسة البرلمانية ويصبح حركة شمولية، كما حدث مع الحزب النازى فى ألمانيا والحزب الشيوعى فى روسيا. وفى تلك اللحظة التاريخية لم يعد الحزب يبدو أداة للديمقراطية، بل كسرطان الديمقراطية.
•••
وأضاف كيرش؛ فى عام 1943، فى ذروة الحرب العالمية الثانية وقبل أسابيع فحسب من موتها، كتبت سيمون فايل مقالا بعنوان «عن إلغاء كل الأحزاب السياسية». نشأت فايل المولودة فى عام 1909 فى عائلة يهودية فرنسية باعتبارها واحدة من أهم المفكرين المتشككين المسيحيين، واتخذ هذا المقال مقاربة دينية وميتافيزيقية على نحو غير عادى للمسائل غير الشريفة العادية الخاصة بسياسة الأحزاب. وقد نشرت «نيويورك ريفيو أوف بوكس» هذا النص الوجيز بالإنجليزية باعتباره كتابا قائما بذاته، وهو من ترجمة سايمون ليز، وزُوِّد بمقال عن فايل كتبه تشيسواف ميوش. ويساعد المقال على قراءة عام الانتخابات اللافت للانتباه والمزعج. ذلك أن فايل تذكرنا فى هجومها الشامل على الأحزاب السياسية، على نحو يدعو للمفارقة، بالسبب فى أن الأحزاب ما زالت مهمة للديمقراطية الفاعلة على الرغم من عيوبها.
تبدأ فايل بالتمييز بين نوع الأحزاب الديمقراطية المعروفة فى القارة الأوروبية، وتلك التى فى البلدان الأنجلو ساكسونية، التى تعترف هى بأن بها «واقع مختلف تماما». إذ تحتفظ الأحزاب الإنجليزية، ومن المفترض الأمريكية، بما تسميه فايل «عنصر الرياضة» الخاص بالتنافس الودى بين الأكفاء. وفى المقابل، الأحزاب الفرنسية ليست راضية بأن تكون واحدا من كثير، بل تسعى إلى السلطة الكاملة. وتقول فايل إن أول مثال لهذا النوع من الأحزاب كانت تعاقبه الثورة الفرنسية الذين تصف مقاربتهم بهذا الاقتباس: «حزب واحد فى السلطة وبقية الأحزاب فى السجن»،
ويوضح الكاتب أن فايل ليست فى معرض تقديم حجة مؤيدة لنسخة أكثر تحديدا من المنافسة الحزبية فعلى سبيل المثال، تتحدث فكرة الحزب باعتباره «معارضة موالية» فى التراث البريطانى عن سياسة الحكومة دون مهاجمة مشروعيتها. بل إن فايل تكتب من منطلق تراث روسو الذى يقول إن مهمة الحكومة هى التعبير عن «الإرادة العامة» للمجتمع. وهذه الإرادة العامة هى رغبة الشعب الحقيقية والعادلة الخالية من المصلحة الخاصة الخبيثة. ويمكن تحديدها بمراعاة الإجماع الناشئ عن النقاش العام الأمين الذى فيه «سوف تبطل الأهواء الشخصية بعضها البعض وتعمل كأثقال موازنة متبادلة». والمهم بالنسبة لهذه العملية هو افتراض أن «روسو متشابه عند كل الرجال، بينما تختلف أهواؤهم فى الغالب» كما تقول فايل. الغِ الأهواء، وما يتبقى سيكون العقل والعدل والحق: «يتجمع الرجال جميعا حول ما هو عدل وحق، بينما يجعلهم الخداع والجريمة يتفرقون بلا غاية».
من الواضح أن السياسة المتصورة على هذا النحو لا مكان فيها للأحزاب السياسية، الأمر الذى ينمى نوع «الأهواء الجماعية»، التى تشوه اتخاذ القرار، وإذا لم يعد الناس يسعون إلى الحقيقة فى مداولاتهم، بل يحاولون فحسب تقديم أجندة للحزب، وحينئذ لا تظهر الإرادة العامة ولا يمكن للعدالة أن تتحقق.
هذه هى حجة فايل الأولى ضد الأحزاب: إنها تمنع الديمقراطية من اكتشاف الحلول الصحيحة الحقيقية للمشكلات.
ومع ذلك يرى الكاتب أن الأمر الأهم هو حجة فايل الثانية التى تقول إن الأحزاب تفسد بالضرورة أرواح أعضائها. وهى تقول: «الأحزاب السياسية تنظيمات صُممت علنيا ورسميا بغرض أن تقتل فى الأرواح جميع الإحساس بالحق والعدل»، فعضو الحزب يتخلى عن ضميره للحزب، حيث يقبل حكمه على كل المسائل السياسية والأخلاقية؛ إذ يفعل الشخص «باعتباره شيوعيا» أو «باعتباره نازيا» أشياء ما كان ليفعلها فى حد ذاته. ومرة أخرى، تعيد فايل النقاش إلى مسألة الحق. فهى تقول إن الفكر المستقل يسعى بالضرورة إلى الحق: «إذا اعترف شخص بأن هناك حقا واحدا فلن يفعل شيئا سوى الحق. وحين يتوقف الشخص عن البحث عن الحق، ويبدأ الحق ويبدأ حساب الميزة الحزبية فإن يقع فيما تسميه فايل «الظلام الداخل».
ويرد الكاتب على ذلك بأنه من الواضح أن حجة فايل ضد الأحزاب تقوم أو تسقط بناء على تعريفها للحق. فالحق كما تراه هذه المفكرة شديدة التدين موحد ويعول نفسه بنفسه؛ فهو موجود فى مكان ما «هناك» ووظيفتنا هى البحث عنه. وهناك إجابة صحيحة لكل سؤال سياسى سوف يكتشفه بالضرورة كل فرد وكل مجتمع بكامله إن نحن قاربناه بقلوب صافية. فالأحزاب تحبط هذا المسعى بتدخلها بين الفرد والحق. ذلك أنها تسكت الضمير وتربك العقل. وهى تقول: «الخداع والخطأ هما أفكار من لا يرغبون فى الحق، أو هؤلاء الذين يرغبون فى الحق زائد شىء آخر.
•••
ويتساءل كيرش قائلا: هل «الحق» يتعلق بمسألة كالضرائب؟ هل نسبة ضرائب الدخل التى هى 35 بالمائة أو أكثر تتطابق مع الحق أكثر من نسبة 40 بالمائة؟ هل هذا هو نوع الأسئلة الذى له إجابة صحيحة واحدة فحسب، كما فى الرياضيات أو الدين؟ الليبرالى، وهو ما لم تكنه فايل بالطبع، كان سيقول قولا مختلفا: لا يتعلق الأمر بالحق، بل بالعدل والإنصاف، وكذلك بالكفاءة والعملية. ومعروف مسائل العدل أنها مقاومة للحل بواسطة «الإرادة العامة»، حيث يعارض الناس الآراء المقتنعة بالمثل بأن العدل فى جانبها.
يوضح الكاتب رأيه بأن الديمقراطية تعمل من خلال الاعتراف بأن السياسة ليست مسألة إيجاد الإجابة الصحيحة، بل التوصل إلى إجابة يوافق الجميع على العيش بها. وهذا هو السبب فى أن الديمقراطية الليبرالية لا ترضى من هم على شاكلة فايل الذين يبحثون عن الحق والخير الكاملين، أو الذين يرون السياسة على أنها شكل من صنع الروح. وبهذا المعنى، تشترك فايل نفسها فى الكثير مع الأحزاب الشمولية، التى تهاجمها أكثر من اشتراكها مع الليبرالية. فهى، كشأن تلك الأحزاب، تصر على الحق الواحد، وتشيطن هؤلاء المعارضون لها باعتبارهم أعداء الحق.
•••
ويشير الكاتب فى نهاية مقاله إلى أن الخطر فى السياسة الأمريكية الآن هو الوقوع، فيما يتعلق بالكثير والكثير من القضايا، فى الازدواجية نفسها التى يتهم فيها كل حزب الحزب الآخر ليس بالخطأ فحسب، بل بالخيانة والشر. وتعمل الديمقراطية فقط إذا كان ولاؤنا للجماعة أقوى من إصرارنا على ما نراه صالحا. وعندما لا يمكن التوفيق بين الصلاح والولاء ــ وهو ما لم يحدث فى النهاية بشأن قضية الرق تفشل الديمقراطية، ويكون الملاذ الوحيد هو العنف. ويمكن للأحزاب أن تساعد على الحيلولة دون هذا النوع من الصراع النبوئى بتكوين تحالف مؤيد للإجماع السياسى. وكلما أصبحت أكثر مرارة من الناحية الأيديولوجية كان خطر مواجهتنا لعودة عالم فايل، حيث كلمة «حزب» نفسها ليست سوى لعنة.